الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        من موانع الرد أن لا يتمكن المشتري من رد المبيع ، وذلك قد يكون لهلاكه ، وقد يكون مع بقائه . وعلى التقدير الثاني ، قد يكون لخروجه عن قبول النقل من شخص إلى شخص ، وربما كان مع قبوله للنقل . وعلى التقدير الثاني ، فربما كان لزوال ملكه ، وربما كان مع بقائه لتعلق حق مانع . الحال الأول والثاني : إذا هلك المبيع في يد المشتري ، بأن مات العبد ، أو قتل ، أو تلف الثوب ، أو أكل الطعام ، أو خرج عن أن يقبل النقل ، بأن أعتق العبد ، أو استولد الجارية ، أو وقف الضيعة ، ثم علم كونه معيبا ، فقد تعذر الرد ، لفوات المردود ، لكن يرجع على البائع بالأرش ، والأرش جزء من الثمن ، نسبته إليه نسبة ما ينقص العيب من قيمة المبيع لو كان سليما إلى تمام القيمة . وإنما كان الرجوع بجزء من الثمن ؛ لأنه لو بقي كل المبيع عند البائع ، كان مضمونا عليه بالثمن . فإذا احتبس جزءا منه ، كان مضمونا بجزء من الثمن . مثاله : كانت القيمة مائة دون العيب ، وتسعين مع العيب ، فالتفاوت بالعشر ، فيكون الرجوع بعشر الثمن . فإن كان مائتين ، فبعشرين . وإن كان خمسين ، فبخمسة . وأما القيمة المعتبرة ، فالمذهب : أنه تعتبر أقل القيمتين من يوم البيع ويوم القبض ، وبهذا قطع الأكثرون . وقيل : فيها أقوال . أظهرها هذا . والثاني : يوم القبض . والثالث : يوم البيع . وإذا ثبت الأرش ، فلو كان الأرش بعد في ذمة المشتري ، برئ من قدر الأرش . وهل يبرأ بمجرد الاطلاع على العيب ، أم يتوقف على الطلب ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : الثاني ، وإن كان قد وفاه وهو باق في يد البائع ، فهل يتعين لحق المشتري ، أم يجوز للبائع إبداله ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : الأول ، [ ص: 475 ] ولو كان المبيع باقيا والثمن تالفا ، جاز الرد ، ويأخذ مثله إن كان مثليا ، وقيمته إن كان متقوما أقل ما كانت من يوم البيع إلى يوم القبض ، ويجوز الاستبدال عنه كالقرض ، وخروجه عن ملكه بالبيع ونحوه ، كالتلف . ولو خرج وعاد ، فهل يتعين لأخذ المشتري ، أم للبائع إبداله ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : أولهما .

                                                                                                                                                                        وإن كان الثمن باقيا في يده بحاله ، فإن كان معينا في العقد أخذه . وإن كان في الذمة ونقده ، ففي تعيينه لأخذ المشتري ، وجهان . وإن كان ناقصا ، نظر ، إن تلف بعضه ، أخذ الباقي وبدل التالف . وإن كان نقص صفة ، كالشلل ونحوه ، لم يغرم الأرش على الأصح . كما لو زاد زيادة متصلة ، يأخذها مجانا . ولو لم تنقص القيمة بالعيب ، كخروج العبد خصيا ، فلا أرش . ولو اشترى عبدا بشرط العتق ، ثم وجد به عيبا بعدما أعتقه ، نقل ابن كج عن ابن القطان : أنه لا أرش له هنا . ونقل عنه وجهين فيمن اشترى من يعتق عليه ثم وجد به عيبا ، قال : وعندي : له الأرش في الصورتين .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : لو زال ملكه عن المبيع ، ثم علم به عيبا ، فلا رد في الحال . وأما الرجوع بالأرش ، فإن زال بعوض كالهبة بشرط الثواب والبيع ، فقولان . أحدهما : يرجع كما لو مات ، وهذا تخريج ابن سريج . فعلى تخريجه لو أخذ الأرش ثم رد عليه مشتريه بالعيب ، فهل له رده مع الأرش واسترداد الثمن ؟ وجهان . والقول الثاني ، وهو المشهور : لا يرجع . ولم لا يرجع ؟ قال أبو إسحاق وابن الحداد : لأنه استدرك الظلامة . وقال ابن أبي هريرة : لأنه ما أيس من الرد ، فربما عاد إليه فرده . وهذا المعنى ، هو الأصح ، وهو منصوص عليه في اختلاف العراقيين . وإن زال بلا عوض ، فعلى تخريج ابن سريج : يرجع بالأرش . وعلى المشهور ، وجهان ، بناء على المعنيين . إن قلنا بالأول : رجع ؛ لأنه لم يستدرك الظلامة . وإن قلنا بالثاني ، فلا ؛ لأنه ربما [ ص: 476 ] عاد إليه . ومنهم من قطع بعدم الرجوع هنا . وإن عاد الملك إليه بعد زواله ، نظر ، هل زال بعوض ، أم بغيره ؟ فهما ضربان .

                                                                                                                                                                        [ الضرب ] الأول : أن يزول بعوض ، بأن باعه ، فينظر ، أعاد بطريق الرد بالعيب أم بغيره ؟ فهما قسمان .

                                                                                                                                                                        [ القسم ] الأول : أن يعود بطريق الرد بالعيب ، فله رده على بائعه ؛ لأنه زال التعذر وبان أنه لم يستدرك الظلامة ، وليس للمشتري الثاني رده على البائع الأول ؛ لأنه لم يملك منه . ولو حدث به عيب في يد المشتري الثاني ، ثم ظهر عيب قديم فعلى تخريج ابن سريج : للمشتري الأول أخذ الأرش من بائعه ، كما لو لم يحدث عيب ، ولا يخفى الحكم بينه وبين المشتري الثاني . وعلى المشهور : ينظر ، إن قبله المشتري الأول مع عيبه الحادث ، خير بائعه ، إن قبله ، فذاك ، وإلا أخذ الأرش منه . وعن ابن القطان : لا يأخذه ، واسترداده رضا بالعيب . وإن لم يقبله وغرم الأرش للثاني ، ففي رجوعه بالأرش على بائعه وجهان . أحدهما : لا يرجع ، وبه قال ابن الحداد ؛ لأنه لو قبله ، ربما قبله منه بائعه ، فكان متبرعا بغرامة الأرش وأصحهما : يرجع ؛ لأنه ربما لا يقبله بائعه ، فيتضرر . وعلى الوجهين : لا يرجع ما لم يغرم للثاني ؛ لأنه ربما لا يطالبه فيبقى مستدركا للظلامة . ولو كانت المسألة بحالها ، وتلف المبيع في يد المشتري الثاني أو كان عبدا فأعتقه ، ثم ظهر [ العيب ] القديم ، رجع المشتري الثاني بالأرش على المشتري الأول ، والأول بالأرش على بائع بلا خلاف ، لحصول اليأس من الرد ، لكن هل يرجع على بائعه قبل أن يغرمه لمشتريه ؟ وجهان بناء على المعنيين . إن عللنا باستدراك الظلامة ، لم يرجع ما لم يغرم ، وإن عللنا بالثاني ، رجع . ويجري الوجهان فيما لو أبرأه الثاني ، هل يرجع هو على بائعه ؟ .

                                                                                                                                                                        القسم الثاني : أن يعود لا بطريق الرد ، بأن عاد بإرث ، أو هبة ، أو قبول وصية ، أو إقالة ، فهل له رده على بائعه ؟ وجهان لهما مأخذان . أحدهما : البناء على المعنيين السابقين [ ص: 477 ] إن عللنا بالأول ، لم يرد ؛ لأنه استدرك الظلامة ، ولم يبطل ذلك الاستدراك ، بخلاف ما لو رد عليه بالعيب . وإن عللنا بالثاني ، رد ، لزوال التعذر ، كما لو رد عليه بعيب .

                                                                                                                                                                        والمأخذ الثاني : أن الملك العائد ، هل ينزل منزلة غير الزائل ؟ وإن عاد بطريق الشراء ، ثم ظهر عيب قديم كان في يد البائع الأول ، فإن عللنا بالمعنى الأول ، لم يرد على البائع الأول ، لحصول الاستدراك ، ويرد على الثاني . وإن عللنا بالثاني ، فإن شاء رد على الأول ، وإن شاء على الثاني . وإذا رد على الثاني ، فله أن يرد عليه ، وحينئذ يرد على الأول . ويجيء وجه : أنه لا يرد على الأول ، بناء على أن الزائل العائد كالذي لم يعد . ووجه : أنه لا يرد على الثاني ؛ لأنه لو رد عليه ، لرد هو أيضا عليه .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : أن يزول لا بعوض ، فينظر ، إن عاد أيضا لا بعوض ، فجواز الرد مبني على أنه هل يأخذ الأرش لو لم يعد ؟ إن قلنا : لا ، فله الرد . وإن قلنا : يأخذ ، فهل ينحصر الحق فيه ، أم يعود إلى الرد عند القدرة ؟ وجهان . وإن عاد بعوض ، بأن اشتراه ، فإن قلنا : لا يرد في الحالة الأولى ، فكذا هنا ، ويرده على البائع الأخير . وإن قلنا : يرد ، فهنا هل يرد على الأول ، أو على الثاني ، أم يتخير ؟ فيه ثلاثة أوجه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        باع زيد عمرا شيئا ، ثم اشتراه منه ، فظهر عيب كان في يد زيد ، فإن كانا عالمين بالحال ، فلا رد . وإن كان زيد عالما ، فلا رد له ولا لعمرو أيضا ، لزوال ملكه ، ولا أرش له على الصحيح ، لاستدراك الظلامة ، أو لتوقع العود . فإن تلف في يد زيد ، أخذ الأرش على التعليل الثاني . وهكذا الحكم لو باعه لغيره . وإن كان عمرو عالما ، فلا رد له ، ولزيد الرد . وإن كانا جاهلين ، فلزيد . [ ص: 478 ] الرد إن اشتراه بغير جنس ما باعه ، أو بأكثر منه ، ثم لعمرو أن يرد عليه . وإن اشتراه بمثله ، فلا رد لزيد في أحد الوجهين ; لأن عمرا يرده عليه ، فلا فائدة ، وله الرد في أصحهما ؛ لأنه ربما رضي به ، فلم يرد . ولو تلف في يد زيد ثم علم به عيبا قديما ، فحيث يرد لو بقي يرجع بالأرش ، وحيث لا يرد ، لا يرجع .

                                                                                                                                                                        الحال الرابع : إذا تعلق به حق ، بأن رهنه ، ثم علم العيب ، فلا رد في الحال وهل له الأرش ؟ إن عللنا باستدراك الظلامة ، فنعم . وإن عللنا بتوقع العود ، فلا . فعلى هذا ، لو تمكن من الرد رده . وإن حصل اليأس أخذ الأرش . وإن أجره ولم نجوز بيع المستأجر ، فهو كالرهن . وإن جوزناه ، فإن رضي البائع به مسلوب المنفعة مدة الإجارة ، رد عليه ، وإلا تعذر الرد ، وفي الأرش وجهان . ويجريان فيما لو تعذر الرد بإباق أو غصب . ولو عرف العيب بعد تزويج الجارية أو العبد ، ولم يرض البائع بالأخذ ، قطع بعضهم بأن المشتري يأخذ الأرش هنا ؛ لأنه لم يستدرك الظلامة ، والنكاح يراد للدوام ، فاليأس حاصل . واختاره الروياني ، والمتولي . ولو عرفه بعد الكتابة ، ففي " التتمة " : أنه كالتزويج . وذكر الماوردي : أنه لا يأخذ الأرش على المعنيين ، بل يصبر ؛ لأنه قد يستدرك الظلامة بالنجوم ، وقد يعود إليه بالعجز ، فيرده . والأصح أنه كالرهن ، وأنه لا يحصل الاستدراك بالنجوم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية