( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) روي أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل التحريم ، وحانت صلاة ، فتقدم أحدهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت . وقيل : نزلت بسبب قول عمر ثانيا : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، وكانوا يتحامونها أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر ، إلى أن سأل عمر ثالثا فنزل تحريمها مطلقا . وهذه الآية محكمة عند الجمهور . وذهب إلى أنها منسوخة بآية المائدة . وأعجب من هذا قول ابن عباس عكرمة : إن قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بقوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) الآية أي أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر ، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال ، ثم نسخ شرب الخمر بقوله : ( فاجتنبوه ) ولم ينزل الله هذه الآية في إباحة الخمر فلا تكون منسوخة ، ولا أباح بعد إنزالها مجامعة الصلاة مع السكر . ووجه قول : أن مفهوم الخطاب يدل على جواز السكر ، وإنما حرم قربان الصلاة في تلك الحال ، فنسخ ما فهم من جواز الشرب والسكر بتحريم الخمر . ابن عباس
ومناسبة [ ص: 255 ] هذه الآية لما قبلها هي : أنه لما أمر تعالى بعبادة الله والإخلاص فيها ، وأمر ببر الوالدين ومكارم الأخلاق ، وذم البخل ، واستطرد منه إلى شيء من أحوال القيامة ، وكان قد وقع من بعض المسلمين تخليط في الصلاة التي هي رأس العبادة بسبب شرب الخمر ، ناسب أن تخلص الصلاة من شوائب الكدر التي يوقعها على غير وجهها ، فأمر تعالى بإتيانها على وجهها دون ما يفسدها ، ليجمع لهم بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم ، وبين الخلق ، والخطاب بقوله : يا أيها الذين آمنوا للصاحين ، لأن السكران إذا عدم التمييز لسكره ليس بمخاطب ، لكنه مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفيره ما أضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر ، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق على ما ذهب إليه بعض الناس .
وبالغ تعالى في النهي عن أن يصلي المؤمن وهو سكران بقوله : ( لا تقربوا الصلاة ) لأن النهي عن قربان الصلاة أبلغ من قوله : لا تصلوا وأنتم سكارى ومنه : ( ولا تقربوا الزنى ) ( ولا تقربوا الفواحش ) ( ولا تقربوا مال اليتيم ) والمعنى : لا تغشوا الصلاة . وقيل : هو على حذف مضاف أي : لا تقربوا مواضع الصلاة لقوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل على أحد التأويلين في عابري سبيل ، وسيأتي إن شاء الله . ومواضع الصلاة هي المساجد لقوله : ( ) . جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم
والجمهور على أن المراد : وأنتم سكارى من الخمر . وقال الضحاك : المراد السكر من النوم ، لقوله : ( ) وقال إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه : المراد بقوله عبيدة السلماني وأنتم سكارى إذا كنتم حاقنين ، لقوله عليه السلام : ( لا يصلين أحدكم وهو حاقن ) . وفي رواية : ( وهو ضام فخذيه ) واستضعف قول الضحاك وعبيدة واستبعد . وقال القرطبي : قولهما صحيح المعنى ، لأن المطلوب من المصلي الإقبال على عبادة الله تعالى بقلبه وقالبه ، بصرف الأسباب التي تشوش عليه وتقل خشوعه من : نوم ، وحقنة ، وجوع ، وغيره مما يشغل البال . وظاهر الآية يدل على النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر . وقيل : المراد النهي عن السكر ، لأن الصلاة قد فرضت عليهم وأوقات السكر ليست محفوظة عندهم ولا بمقدرة ، لأن السكر قد يقع تارة بالقليل وتارة بالكثير ، وإذا لم يتحرر وقت ذلك عندهم تركوا الشرب احتياطا لأداء ما فرض عليهم من الصلوات . وأيضا فالسكر يختلف باختلاف أمزجة الشاربين ، فمنهم من سكره الكثير ، ومنهم من سكره القليل .
وقرأ الجمهور : سكارى بضم السين . واختلفوا : أهو جمع تكسير ؟ أم اسم جمع ؟ ومذهب أنه جمع تكسير . قال سيبويه في حد تكسير الصفات : وقد يكسرون بعض هذه على فعالى ، وذلك قول بعضهم : سكارى وعجالى . فهذا نص منه على أن فعالى جمع . ووهم الأستاذ سيبويه أبو الحسن بن الباذش فنسب إلى أنه اسم جمع ، وأن سيبويه بين ذلك في الأبنية . قال سيبويه ابن الباذش : وهو القياس ، لأنه جاء على بناء لم يجئ عليه جمع ألبتة ، وليس في الأبنية إلا نص على أنه تكسير ، وذلك أنه قال : ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسمانى وكبارى ، ولا يكون وصفا ، إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وسكارى وكسالى . وحكى سيبويه فيه القولين ، ورجح أنه تكسير ، وأنه الذي يدل عليه كلام السيرافي . وقرأت فرقة : سكارى بفتح السين نحو ندمان وندامى ، وهو جمع تكسير . وقرأ سيبويه النخعي : سكرى ، فاحتمل أن يكون صفة لواحدة مؤنثة كامرأة سكرى ، وجرى على جماعة إذ معناه : وأنتم جماعة سكرى . وقال : هو جمع سكران على وزن فعلى كقوله : روبى نياما وكقولهم : هلكى وميدى جمع هالك ومائد . وقرأ ابن جني : ( سكرى ) بضم السين على وزن حبلى ، وتخريجه على أنه صفة لجماعة أي : وأنتم جماعة سكرى . وحكى الأعمش جناح بن حبيش : كسلى وكسلى بالضم [ ص: 256 ] والفتح قاله . ومعنى حتى تعلموا ما تقولون : حتى تصحوا فتعلموا . جعل غاية السبب والمراد السبب ، لأنه ما دام سكران - لا يعلم ما يقول ، وظاهر الآية يدل على أن السكران لا يعلم ما يقول ، ولذلك ذهب الزمخشري عثمان ، ، و وابن عباس ، و طاوس عطاء ، و القاسم ، و ربيعة ، و الليث ، و إسحاق ، ، و وأبو ثور المزني إلى أن السكران لا يلزمه طلاق ، واختاره . وقال أجمع العلماء : على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس . ولا يختلفون في أن طلاق من ذهب عقله بالبنج غير جائز ، فكذلك من سكر من الشراب . وروي عن الطبري عمر ومعاوية وجماعة من التابعين : أن طلاقه نافذ عليه وهو قول : أبي حنيفة ، و ، و الثوري . قال الأوزاعي أبو حنيفة : أفعاله وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي إلا الردة ، فإنه إذا ارتد لا تبين امرأته منه . وقال أبو يوسف : يكون مرتدا في حال سكره ، وهو قول ، إلا أنه لا يقتله في حال سكره ، ولا يستتيبه . واختلف قوله في الطلاق ، وألزم الشافعي مالك السكران الطلاق والقود في الجراح والعقل ، ولم يلزمه النكاح والبيع . قال الماوردي : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزمه طلاقه . وقال محمد بن عبد الحكم : لا يلزمه طلاق ولا عتاق . واختلفوا في السكر . فقيل : هو الذي لا يعرف صاحبه الرجل من المرأة قاله جماعة من السلف ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ويدل عليه قوله : حتى تعلموا ما تقولون . فظاهره يدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول . وقال : السكر اختلال العقل ، فإذا خلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف حده . وقال الثوري أحمد : إذا تغير عقله في حال الصحة فهو سكران . وحكي عن مالك نحوه .
قيل : وفي الآية دلالة على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر . وقال القفال : يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية ، وأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حالة الجنون والإغماء فما أبيح قصده ، بل لو أنفق من غير قصد كان مرفوعا عن صاحبه .