الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) قال الجمهور ومنهم ابن مسعود : الإحصان هنا الإسلام . والمعنى : أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة . وقد ضعف هذا القول ، بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت في قوله : ( من فتياتكم المؤمنات ) فكيف يقال في المؤمنات : فإذا أسلمن ؟ قاله : إسماعيل القاضي . وقال ابن عطية : ذلك غير لازم ، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد ، فإذا كن على هذه الصفة المتقدمة من الإيمان فإن أتين فعليهن ، وذلك سائغ صحيح انتهى . وليس كلامه بظاهر ، لأن أسلمن فعل دخلت عليه أداة الشرط ، فهو مستقبل مفروض التجدد والحدوث فيما يستقبل ، فلا يمكن أن يعبر به عن الإسلام ، لأن الإسلام متقدم سابق لهن . ثم إنه شرط جاء بعد قوله تعالى : ( فانكحوهن ) فكأنه قيل : فإذا أحصن بالنكاح ، فإن أتين .

ومن فسر الإحصان هنا بالإسلام جعله شرطا في وجوب الحد ، فلو زنت الكافرة لم تحد ، وهذا قول الشعبي ، و الزهري ، وغيرهما ، وقد روي عن الشافعي . وقالت فرقة : هو التزويج ، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، والسدي . وقالت فرقة : هو التزوج . وتحد الأمة المسلمة بالسنة ، تزوجت أو لم تتزوج ، بالحديث الثابت في صحيح البخاري ومسلم ، وهو أنه قيل : يا رسول الله ، الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فأوجب عليها الحد . قال الزهري : فالمتزوجة محدودة بالقرآن ، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث . وهذا السؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا أن معنى : فإذا أحصن ، تزوجن . وجواب الرسول : يقتضي تقرير ذلك ، ولا مفهوم لشرط الإحسان الذي هو التزوج ، لأنه وجب عليه الحد بالسنة وإن لم تحصن ، وإنما نبه على حالة الإحصان الذي هو التزوج ، لئلا يتوهم أن حدها إذا تزوجت كحد الحرة إذا أحصنت وهو الرجم ، فزال هذا التوهم بالإخبار : أنه ليس عليها إلا نصف الحد الذي يجب على الحرائر اللواتي لم يحصن بالتزويج ، وهو الجلد خمسين .

والمراد بالعذاب الجلد كقوله تعالى : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) ولا يمكن أن يراد الرجم ، لأن الرجم لا يتنصف . والمراد بفاحشة هنا : الزنا ، بدليل إلزام الحد . والظاهر أنه يجب نصف ما على الحرة من العذاب ، والحرة عذابها جلد مائة وتغريب عام ، فحد الأمة خمسون وتغريب ستة أشهر . وإلى هذا ذهب جماعة من التابعين ، واختاره الطبري . وذهب ابن عباس والجمهور : إلى أنه ليس عليها إلا جلد خمسين فقط ، ولا تغرب . فإن كانت الألف واللام في ( العذاب ) لعهد العذاب المذكور في القرآن فهو الجلد فقط ، وإن كانت للعهد في العذاب المستقر في الشرع على الحرة كان الجلد والتغريب . والظاهر وجوب الحد من قوله : فعليهن ، فلا يجوز العفو عن الأمة من السيد إذا زنت ، وهو مذهب الجمهور . وذهب الحسن إلى أن للسيد أن يعفو ، ولم تتعرض الآية لمن يقيم الحد عليها .

قال ابن شهاب : مضت السنة أن يحد الأمة والعبد في الزنا أهلوهم ، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان ، فليس لأحد أن يفتات عليه . وقال ابن أبي ليلى : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من وئدهم إذا زنت في مجالسهم . وأقام الحد على عبيدهم جماعة من الصحابة ، منهم : ابن عمر ، و أنس . وجاءت بذلك ظواهر الأحاديث كقوله : ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ) وبه قال الثوري والأوزاعي . وقال مالك والليث : يحد السيد إلا في القطع ، فلا يقطع إلا الإمام . وقال أبو حنيفة : لا يقيم الحدود على العبيد [ ص: 224 ] والإماء إلا السلطان دون الموالي ، وظاهر الآية يدل على وجوب الحد عليها في حال كونها أمة ، فلو عتقت قبل أن يقام عليها الحد أقيم عليها حد أمة ، وهذا مجمع عليه . والمحصنات هنا الأبكار الحرائر ، لأن الثيب عليها الرجم . وظاهر الآية أنه لا يجب إلا هذا الحد . وذهب أهل الظاهر منهم داود : إلى أنه يجب بيعها إذا زنت زنية رابعة .

وقرأ حمزة والكسائي : ( أحصن ) مبنيا للفاعل ، وباقي السبعة : مبنيا للمفعول إلا عاصما ، فاختلف عنه . ومن بناه للمفعول فهو ظاهر حدا في أنه أريد به التزوج ، ويقوي حمله مبنيا للفاعل على هذا المعنى أي : أحصن أنفسهن بالتزويج . وجواب فإذا الشرط وجوابه وهو قوله : فإن أتين بفاحشة فعليهن ، فالفاء في ( فإن أتين ) هي فاء الجواب ، لا فاء العطف ، ولذلك ترتب الثاني ، وجوابه على وجود الأول ، لأن الجواب مترتب على الشرط في الوجود ، وهو نظير : إن دخلت الدار فإن كلمت زيدا فأنت طالق ، لا يقع الطلاق إلا إذا دخلت الدار أولا ثم كلمت زيدا ثانيا . ولو أسقطت الفاء من الشرط الثاني لكان له حكم غير هذا وتفصيل ذكر في النحو . و ( من العذاب ) في موضع الحال من الضمير المستكن في صلة ( ما ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية