( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) تقدم الكلام على كون متاع الدنيا قليلا في قوله : ( متاع قليل ) ، وإنما قل ; لأنه فان ، ونعيم الآخرة مؤبد ، فهو خير لمن اتقى الله ، وامتثل أمره في ما أحب ، وفي ما كان شاقا من قتال وغيره . وقرأ حمزة ، والكسائي وابن كثير ( ولا يظلمون ) بالياء ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب ، وهو التفات ; أي لا تنقصون من أجور أعمالكم ، ومشاق التكاليف أدنى شيء ؛ فلا ترغبوا عن الأجر .
( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) ; أي هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه ; لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره ، فلا فائدة في خور الطبع ، وحب الحياة . وتحتمل هذه الجملة أن يكون ذلك تحت معمول قل ، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله مستأنفا بأنه لا ينجو من الموت أحد . والبروج هنا القصور في الأرض ؛ قاله مجاهد ، والجمهور . أو القصور من حديد روي عن وابن جريج . أو قصور في سماء الدنيا مبنية قاله ابن عباس . أو الحصون والآكام والقلاع ؛ قاله السدي . أو البيوت التي تكون فوق الحصون قاله بعضهم . أو بروج السماء التي هي منازل القمر ؛ قاله ابن عباس الربيع وأنس ، وحكاه والثوري ابن القاسم عن مالك . وقال : ألا ترى إلى قوله : ( والسماء ذات البروج ) ، وجعل فيها بروجا ( ولقد جعلنا في السماء بروجا ) ، وقال زهير :
ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم
مشيدة مطولة ؛ قاله أبو مالك ومقاتل وابن قتيبة . أو مطلية بالشيد ؛ قاله والزجاج أبو سليمان الدمشقي . أو حصينة قاله ابن عباس وقتادة . ومن قال : إنها بروج في السماء ; فلأنها بيض شبهها بالمبيض بالشيد ، ولهذا قال الذي هي قصور بيض في السماء مبنية .والجزم في يدرككم على جواب الشرط ، وأينما تدل على العموم ، وكأنه قيل في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت . ولو هنا بمعنى إن ، وجاءت لدفع توهم النجاة من الموت بتقدير : إن لو كانوا في بروج مشيدة ، ولإظهار استقصاء العموم في أينما . وقرأ طلحة بن سليمان : يدرككم برفع الكافين ، وخرجه أبو الفتح : على حذف فاء الجواب ; أي فيدرككم الموت ، وهي قراءة ضعيفة . قال : ويجوز أن يقال : حمل على ما يقع موقع ( الزمخشري أينما تكونوا ) ، وهو : أينما كنتم كما حمل ، ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين ، وهو ليسوا بمصلحين . فرفع كما رفع زهير يقول : لا غائب ما لي ولا حرم . وهو قول نحوي سيبويهي ، انتهى .
ويعني : أنه جعل ( يدرككم ) ارتفع لكون ( أينما تكونوا ) في معنى أينما كنتم ، بتوهم أنه نطق به . وذلك أنه متى كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان : أحدهما : الجزم على الجواب . والثاني : الرفع . وفي توجيه الرفع خلاف . الأصح أنه ليس الجواب ، بل ذلك على التقديم والتأخير والجواب محذوف . وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعل الشرط ماضي اللفظ ؛ فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعا . وحمله على ( ولا ناعب ) ليس بجيد ؛ لأن ( ولا ناعب ) عطف على التوهم والعطف على التوهم لا ينقاس . وقال أيضا ، ويجوز أن يتصل بقوله : ( الزمخشري ولا تظلمون فتيلا ) ; أي لا تنقصون شيئا مما كتب [ ص: 300 ] من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها . ثم ابتدأ بقوله : يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة . والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا ، انتهى كلامه . وهذا تخريج ليس بمستقيم ، لا من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة النحوية ; أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلا بقوله : ولا تظلمون فتيلا ; لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى )
وأما من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أن أينما تكونوا متعلق بقوله : ولا تظلمون ، ما فسره من قوله ; أي لا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها ؛ وهذا لا يجوز ; لأن أينما اسم شرط ، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده . ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله ، فلا يمكن أن يعمل فيه ، ولا تظلمون . بل إذا جاء نحو : اضرب زيدا متى جاء ، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب . فإن قال : يقدر له جواب محذوف يدل عليه ما قبله ، وهو : ولا تظلمون ؛ كما تقدر في اضرب زيدا متى جاء ؛ فالتقدير : أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلا ; أي فلا ينقص شيء من آجالكم ، وحذفه لدلالة ما قبله عليه . قيل له : لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي ، وفعل الشرط هنا مضارع . تقول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، ولا تقل أنت ظالم إن تفعل . وقرأ نعيم بن ميسرة : مشيدة بكسر الياء وصفا لها بفعل فاعلها مجازا ، كما قال : قصيدة شاعرة ، وإنما الشاعر ناظمها .