الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        البحث التاسع

                        في اللفظ إذا دار بين أن يكون مجازا أو مشتركا هل يرجح المجاز على الاشتراك أو الاشتراك على المجاز ؟

                        فرجح قوم الأول ، ورجح آخرون الثاني .

                        استدل الأولون بأن المجاز أكثر من الاشتراك في لغة العرب ، فرجح الأكثر على الأقل .

                        قال ابن جني : أكثر اللغة مجاز ، وبأن المجاز معمول به مطلقا ، فبلا قرينة حقيقية ، ومعها مجاز ، والمشترك بلا قرينة مهمل ، والإعمال أولى من الإهمال . وبأن المجاز أبلغ من الحقيقة ، كما هو مقرر في علم المعاني والبيان ، وبأنه أوجز كما في الاستعارة ، فهذه فوائد للمجاز .

                        وقد ذكروا غيرها من الفوائد التي لا مدخل لها في المقام ، وذكروا للمشترك مفاسد منها : إخلاله بالفهم عند خفاء القرينة ، عند من لا يجوز حمله على معنييه ، أو معانيه [ ص: 109 ] بخلاف المجاز ، فإنه عند خفاء القرينة يحمل على الحقيقة .

                        ومنها : تأديته إلى مستبعد من نقيض ، أو ضد ، كالقرء إذا أطلق مرادا به الحيض ، فيفهم منه الطهر ، أو بالعكس .

                        ومنها : احتياجه إلى قرينتين : إحداهما معينة للمعنى المراد ، والأخرى معينة للمعنى الآخر ، بخلاف المجاز ، فإنه تكفي فيه قرينة واحدة .

                        واحتج الآخرون : بأن للاشتراك فوائد ، لا توجد في المجاز ، وفي المجاز مفاسد لا توجد في المشترك .

                        فمن الفوائد : أن المشترك مطرد فلا يضطرب ، بخلاف المجاز ، فقد لا يطرد كما تقدم .

                        ومنها : الاشتقاق منه بالمعنيين ، فيتسع الكلام نحو : " أقرأت المرأة " بمعنى حاضت ، وطهرت ، والمجاز لا يشتق منه ، وإن صلح له حال كونه حقيقة .

                        ومنها : صحة التجوز باعتبار معنيي المشترك ، فتكثر بذلك الفوائد .

                        وأما مفاسد المجاز التي لا توجد في المشترك فمنها : احتياجه إلى الوضعين الشخصي والنوعي ، والشخصي باعتبار معناه الأصلي والفرعي للعلاقة ، والمشترك يكفي فيه الوضع الشخصي ولا يحتاج إلى النوعي ، لعدم احتياجه إلى العلاقة .

                        ومنها : أن المجاز مخالف للظاهر ، فإن الظاهر المعنى الحقيقي ، لا المجازي ، بخلاف المشترك ، فإنه ليس ظاهرا في بعض معانيه دون بعض ، حتى يلزم بإرادة أحدها مخالفة الظاهر .

                        ومنها : أن المجاز قد يؤدي إلى الغلط عند عدم القرينة ، فيحمل على المعنى الحقيقي بخلاف المشترك فإن معانيه كلها حقيقة .

                        وقد أجيب عن هذه الفوائد والمفاسد التي ذكرها الأولون والآخرون .

                        والحق أن الحمل على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك لغلبة المجاز بلا خلاف ، والحمل على الأعم الأغلب دون القليل النادر متعين .

                        [ ص: 110 ] واعلم أن التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ لا يختص بالتعارض بين المشترك والمجاز ، فإن الخلل في فهم مراد المتكلم يكون على خمسة أوجه :

                        أحدها : احتمال الاشتراك . وثانيها : احتمال النقل بالعرف أو الشرع . وثالثها : احتمال المجاز . ورابعها : احتمال الإضمار . وخامسها : احتمال التخصيص .

                        ووجه كون هذه الوجوه تؤثر خللا في فهم مراد المتكلم : أنه إذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل ، كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد ، وإذا انتفى احتمال المجاز والإضمار كان المراد من اللفظ ما وضع له ، وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له ، فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم .

                        والتعارض بين هذه يقع من عشرة وجوه ; لأنه يقع بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية ، ثم بين النقل وبين الثلاثة الباقية ، ثم بين المجاز والوجهين الباقيين ، ثم بين الإضمار والتخصيص .

                        فإذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل ، فقيل : إن النقل أولى ; لأنه يكون اللفظ عند النقل لحقيقة واحدة مفردة في جميع الأوقات ، والمشترك مشترك في الأوقات كلها .

                        وقيل : الاشتراك أولى ; لأنه لا يقتضي فسخ وضع سابق ، والنقل يقتضيه .

                        وأيضا : لم ينكر وقوع المشترك في لغة العرب أحد من أهل العلم ، وأنكر النقل كثير منهم .

                        وأيضا : قد لا يعرف النقل ، فيحمل السامع ما سمعه من اللفظ على المعنى الأصلي ، فيقع الغلط .

                        وأيضا : المشترك أكثر وجودا من المنقول .

                        وهذه الوجوه ترجح الاشتراك على النقل ، وهي أقوى مما استدل به من رجح النقل .

                        وأما التعارض بين المشترك والمجاز فقد تقدم تحقيقه في صدر هذا البحث .

                        وأما التعارض بين الاشتراك والإضمار ، فقيل : إن الإضمار أولى ; لأن الإجمال [ ص: 111 ] الحاصل بسبب الإضمار مختص ببعض الصور ، والإجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور ، فكان إخلاله بالفهم أكثر من إخلال الإضمار به .

                        وقيل : إن الاشتراك أولى ; لأن الإضمار محتاج إلى ثلاث قرائن : قرينة تدل على أصل الإضمار ، وقرينة تدل على موضع الإضمار ، وقرينة تدل على نفس المضمر ، والمشترك يفتقر إلى قرينتين ، كما سبق ، فكان الإضمار أكثر إخلالا بالفهم .

                        وأجيب : بأن الإضمار وإن افتقر إلى تلك القرائن الثلاث : فذلك في صورة واحدة ، بخلاف المشترك ، فإنه يفتقر إلى القرينتين في صور متعددة ، فكان أكثر إخلالا بالفهم ، على أن الإضمار من باب الإيجاز ، وهو من محسنات الكلام .

                        وأما التعارض بين الاشتراك والتخصيص : فقيل : التخصيص أولى ; لأن التخصيص أولى من المجاز ، وقد تقدم أن المجاز أولى من الاشتراك .

                        وأما التعارض بين النقل والمجاز : فقيل : المجاز أولى ; لأن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع ، وذلك متعذر أو متعسر ، والمجاز يحتاج إلى قرينة مانعة عن فهم الحقيقة وذلك متيسر . وأيضا المجاز أكثر من النقل ، والحمل على الأكثر مقدم ، وأيضا في المجاز ما قدمنا من الفوائد ، وليس شيء من ذلك في المنقول .

                        وأما التعارض بين النقل والتخصيص : فقيل : التخصيص أولى ; لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز ، والمجاز مقدم على النقل .

                        وأما التعارض بين المجاز والإضمار : فقيل : هما سواء ، وقيل : المجاز أولى ; لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن ، كما تقدم .

                        وأما التعارض بين المجاز والتخصيص : فالتخصيص أولى ; لأن السامع إذا لم يجد قرينة تدل على التخصيص ، حمل اللفظ على عمومه ، فيحصل مراد المتكلم ، وأما في المجاز فالسامع إذا لم يجد قرينة لحمله على الحقيقة ، فلا يحصل مراد المتكلم .

                        وأما التعارض بين الإضمار والتخصيص : فالتخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز ، والمجاز هو والإضمار سواء ، وهو أولى من الإضمار .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية