الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الثامنة عشرة : في عموم المقتضى

                        اختلفوا في المقتضى هل هو عام أم لا ؟

                        ولا بد من تحرير تصويره قبل نصب الخلاف فيه ، فنقول المقتضي - بكسر الضاد - هو اللفظ الطالب للإضمار بمعنى أن اللفظ لا يستقيم إلا بإضمار شيء ، وهناك مضمرات متعددة فهل تقدر جميعها أو يكتفى بواحد منها ؟ وذلك التقدير هو المقتضى ، بفتح الضاد .

                        وقد ذكروا لذلك أمثلة مثل قوله تعالى الحج أشهر معلومات وقدره بعضهم : وقت إحرام الحج أشهر معلومات ، وبعضهم قدره : وقت أفعال الحج أشهر معلومات ، ومثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فإن هذا الكلام لا يستقيم بلا تقدير ; لوقوعهما من الأمة ، فقدروا في ذلك تقديرات مختلفة كالعقوبة ، والحساب ، والضمان ، ونحو ذلك ، ونحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم إنما الأعمال بالنيات ، وأمثال ذلك كثير ، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يحمل على العموم في كل ما يحتمله ; لأنه أعم فائدة ، وذهب بعضهم إلى أنه يحمل على الحكم المختلف فيه ; لأن ما سواه معلوم بالإجماع ، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وهذا كله خطأ ; لأن الحمل على الجميع لا يجوز ، وليس هناك لفظ يقتضي العموم ، ولا يحمل على موضع الخلاف ; لأنه ترجيح بلا مرجح . انتهى .

                        وذهب الجمهور إلى أنه لا عموم له بل يقدر منها ما دل الدليل على إرادته ، فإن لم [ ص: 381 ] يدل دليل على إرادة واحد منها بعينه ، كان مجملا بينها ، وبتقدير الواحد منها الذي قام الدليل على أنه المراد يحصل المقصود وتندفع الحاجة ، فكان ذكر ما عداه مستغنى عنه .

                        وأيضا قد تقرر أنه يجب التوقف فيما تقتضيه الضرورة على قدر الحاجة ، وهذا هو الحق ، وقد اختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، والغزالي ، وابن السمعاني ، وفخر الدين الرازي ، والآمدي ، وابن الحاجب .

                        قال الرازي في المحصول ، مستدلا للقائلين بعموم المقتضى : بأن إضمار أحد الحكمين ليس بأولى من إضمار الآخر ، فإما أن لا يضمر حكم أصلا ، وهو غير جائز ; لأنه تعطيل لدلالة اللفظ ، أو يضمر الكل ، وهو المطلوب .

                        هكذا استدل لهم ، ولم يجب عن ذلك .

                        وأجاب الآمدي عنه : بأن قولهم : ليس إضمار البعض أولى من البعض ، إنما يلزم أن لو قلنا بإضمار حكم معين ، وليس كذلك بل إضمار حكم ما ، والتعيين إلى الدليل ، ثم أورد عليه بأنه يلزم الإجمال .

                        وأجاب بأن إضمار الكل يلزم منه تكثير مخالفة الدليل ، وكل منهما يعني الإجمال ، وإضمار الكل خلاف الأصل .

                        قال ابن برهان : وإذا قلنا : ليس بمجمل فقيل يصرف إطلاقه في كل عين إلى المقصود واللائق به ، وقيل : يضمر الموضع المختلف فيه ; لأن المجمع عليه مستغن عن الدليل ، حكى ذلك الشيخ أبو إسحاق الشيرازي .

                        قال الأصفهاني في شرح المحصول : إن قلنا المقتضى له عموم أضمر الكل ، وإن قلنا لا عموم له فهل يضمر ما يفهم من اللفظ بعرف الاستعمال قبل الشرع ، أو يضمر حكم من غير تعيين ، وتعيينه إلى المجتهد ، والأول اختيار الغزالي ، والثاني اختيار الآمدي ، والثالث التوقف . انتهى .

                        وهذا الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يفهم بدليل يدل على تعيين أحد [ ص: 382 ] الأمور الصالحة لتقديرها ، أما إذا قام الدليل على ذلك ، فلا خلاف في أنه يتعين للتقدير ما قام الدليل على تقديره ، كقوله سبحانه حرمت عليكم الميتة و حرمت عليكم أمهاتكم فإنه قد قام الدليل على أن المراد في الآية الأولى تحريم الأكل ، وفي الثانية الوطء .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية