الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2246 - مسألة : فيمن قذف وهو سكران قال أبو محمد رحمه الله : قد ذكرنا في مواضع كثيرة حكم السكران وأنه غير مؤاخذ بشيء أصلا إلا حد الخمر فقط ، إلا أننا نذكر عمدة حجتنا في ذلك باختصار - إن شاء الله تعالى قال أبو محمد رحمه الله : قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فشهد الله تعالى وهو أصدق شاهد : أن السكران لا يدري ما يقول ، وإذ لم يدر ما يقول فلا شيء عليه ، ولم يختلف أحد من الأمة في أن امرأ لو نطق بلفظ لا يدري معناه - وكان معناه كفرا ، أو قذفا ، أو طلاقا - فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك ، فإذا كان السكران لا يدري ما يقول ، فلا يجوز أن يؤاخذ بشيء مما يقول ، قذفا كان أو غير قذف . فإن قالوا : كان هذا قبل تحريم الخمر ؟ قلنا : نعم ، فكان ماذا ؟ والأمة كلها مجمعة بلا خلاف من أحد منها على أن حكم هذه الآية باق لم ينسخ ، وأنه لا يحل لسكران أن يقرب الصلاة حتى يدري ما يقول . وكذلك لا يختلف اثنان من ولد آدم في أن حال السكران في أنه لا يدري ما يقول باق كما كان لم يحله الله تعالى عن صفته . فإن قالوا : هو أدخل ذلك على نفسه ؟ قلنا : نعم ، وهذا لا فائدة لكم فيه لوجوه : أولها - أن هذا تعلل لا يوجب حكما ; لأنه لم يأت بهذا التعليل قرآن ، ولا سنة ولا إجماع [ ص: 263 ] الثاني - إنا نسألكم عمن أكره على شرب الخمر ، ففتح فمه كرها بأكاليب وصب فيه الخمر حتى سكر ، فإن هذا لا خلاف في أنه غير آثم ، ولا في أنه لم يدخله على نفسه ، فينبغي أن يكون حكمه عندكم بخلاف حكم من أدخله على نفسه ، فلا تلزموا هذا المكره شيئا مما قال في ذلك السكر ، وإلا فقد تناقضتم . والثالث - إنا نسألكم عمن شرب البلاذر فجن ، أو تزيد فقطع عصب ساقيه فأقعد ، أيكون لذلك المجنون حكم المجانين في سقوط جميع الأحكام عنه ، أو تكون الأحكام لازمة له من أجل أنه أدخل ذلك على نفسه ؟ وهل يكون للذي أبطل ساقيه عمدا أو أشرا ومعصية لله تعالى حكم المقعد في الصلاة وسقوط الحج وغير ذلك ؟ أم لا يسقط عنه شيء من ذلك من أجل إدخاله ذلك على نفسه ؟ فمن قولهم - بلا خلاف - إن لهما حكم سائر المجانين ، وسائر القاعدين . فبطل تعلقهم بأن السكران أدخل ذلك على نفسه . وقد صح { أن حمزة رضي الله عنه - قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعلي بن أبي طالب ، وزيد بن خالد : هل أنتم إلا عبيد لآبائي - وهو سكران - فلم يعنفه على ذلك ، } ولو قالها صحيحا لكفر بذلك ، وحاش له من ذلك . فصح أن السكران إذا ذهب تمييزه فلا شيء عليه - لا في القذف ولا في غيره - ; لأنه مجنون لا عقل له . فإن قالوا : قد جاء عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وإذا افترى جلد ثمانين ؟ قلنا : حاشى لله أن يقول صاحب هذا الكلام الفاسد ؟ هم والله ، أجل ، وأعقل ، وأعلم ، من أن يقولوا هذا السخف الباطل ، ويكفي منه إجماعهم على أن من هذى فلا حد عليه ، ولو كفر ، أو قذف ، فهم يحتجون بما هم أول مخالف له ، وأحضر مبطل لحكمه - ونعوذ بالله من مثل هذا . وسنتكلم - إن شاء الله تعالى - في إبطال هذا الخبر من طريق إسناده ، ومن تخاذله وفساده في كلامنا في " حد الخمر " من ديواننا هذا إن شاء الله تعالى فإن قالوا : ومن يدري أنه سكران ، ولعله تساكر ؟

                                                                                                                                                                                          [ ص: 264 ] قيل لهم : قولوا هذا بعينه في المجنون : ومن يدري أنه مجنون ، ولعله متحامق ، وأنتم لا تقولون هذا ، بل تسقطون عنه الأحكام والحدود ، فالحال التي تدرى في المجنون أنه مجنون ، بمثلها يدرى في السكران أنه سكران ولا فرق - وهي : إنه إذا بلغ من نفسه من التخليط في كلامه وأفعاله حيث يوقن أنه لا يبلغه من نفسه المميز الصاحي حياء من مثل تلك الحال - فهذا بلا شك أحمق ، وسكران ، كما قال الله تعالى { حتى تعلموا ما تقولون } فمن خلط في كلامه فليس يعلم ما يقول - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية