الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
السماع على نوع من الوهن أو عن رجلين .


( 678 ) ثم على السامع بالمذاكره بيانه كنوع وهن خامره      ( 679 ) والمتن عن شخصين واحد جرح
لا يحسن الحذف له لكن يصح      (680 ) ومسلم عنه كنى فلم يوف
والحذف حيث وثقا فهو أخف [ ص: 206 ] (      681 ) وإن يكن عن كل راو قطعه
أجز بلا ميز بخلط جمعه      (682 ) مع البيان كحديث الإفك
وجرح بعض مقتض للترك      ( 683 ) وحذف واحد من الإسناد
في الصورتين امنع للازدياد

[ بيان بعض الوهن الواقع في السماع ] : الفصل الثالث عشر وفيه مسألتان :

الأولى : ( السماع على نوع من الوهن أو ) بإسناد قرنت فيه الرواية ( عن رجلين ) فأكثر ، ( ثم ) بعد استحضار ما تقدم من التحري في الأداء ( على السامع ) من حفظ المحدث ( بالمذاكره ) أي : في المذاكرة ، ( بيانه ) على الوجه الواقع ، كأن يقول : أنا فلان مذاكرة . وذلك مستحب كما صرح به الخطيب .

وإن كان ظاهر كلام ابن الصلاح الوجوب ، فقد فعله بدون بيان غير واحد من متقدمي العلماء ، بل يقال مما الظاهر خلافه كما تقدم آخر رابع أقسام التحمل : إن ما يورده البخاري في ( صحيحه ) عن شيوخه بصيغة : قال لي . أو : قال لنا . أو : زادنا . أو : زادني . أو : ذكر لنا . أو : ذكر لي . ونحوها مما حمله عنهم في المذاكرة .

( كنوع وهن خامره ) أي خالطه ، بأن سمع من غير أصل ، أو كان هو أو شيخه يتحدث أو ينعس أو ينسخ في وقت الإسماع ، أو كان سماعه أو سماع شيخه بقراءة لحان أو مصحف ، أو كتابة التسميع حيث لم يكن المرء ذاكرا لسماع نفسه بخط من فيه نظر ، أو نحو ذلك .

وقد أورد أبو داود في ( سننه ) عن شيخه محمد بن العلاء حديثا ثم قال بعده : لم أفهم إسناده من ابن العلاء كما أحب . وكذا أورد فيها أيضا عن بندار حديثا طويلا ، ثم قال في آخره : خفي علي منه بعضه . لمشاركة السماع في المذاكرة غالبا لهذه الصور في الوهن ، إذ الحفظ خوان ، وربما يقع فيها بسبب ذلك التساهل ، [ ص: 207 ] بل أدرجها ابن الصلاح فيما فيه بعض الوهن .

ولذا منع ابن مهدي وابن المبارك وأبو زرعة الرازي وغيرهم من التحمل عنهم فيها ، وامتنع أحمد وغيره من الأئمة من رواية ما يحفظونه إلا من كتبهم . وفي إغفال البيان إيهام وإلباس يقرب من التدليس ، وكما يستحب البيان فيما تقدم ، كذلك يستحب بيان ما فيه دلالة لمزيد ضبط وإتقان ، كتكرر سماعه للمروي ، وقد فعله غير واحد من الحفاظ ، فيقولون : ثنا فلان غير مرة .

[ لا يحسن حذف المجروح إذا كان الحديث عنه وعن ثقة ] :

المسألة الثانية : ( والمتن عن شخصين ) مقرونين من شيوخه الذين أخذ عنهم أو ممن فوقهم ( واحد ) منهما ( جرح ) ، والآخر وثق ، كحديث لأنس يرويه عنه مثلا ثابت البناني وأبان بن أبي عياش ( لا يحسن ) للراوي على وجه الاستحباب ( الحذف له ) أي : للمجروح وهو أبان ، والاقتصار على ثابت ، خوفا من أن يكون فيه شيء عن أبان خاصة ، وحمل المحدث عنهما أو من دونه لفظ أحدهما على الآخر . قاله الخطيب .

( لكن يصح ) لأن الظاهر - كما قال ابن الصلاح - : اتفاق الروايتين ، وما ذكر من الاحتمال نادر بعيد ، فإنه من الإدراج الذي لا يجوز تعمده . نعم قال الخطيب : إن أحمد سئل عن مثله فقال فيه نحوا مما ذكرنا .

ثم ساق من طريق حرب بن إسماعيل أن أحمد قيل له في مثل هذا : أتجوز أن أسمي ثابتا وأترك أبانا ؟ قال : لا ، لعل في حديث أبان شيئا ليس في حديث ثابت . وقال : إن كان هكذا فأحب أن أسميهما . وهذا محتمل .

ويتأيد الاستحباب بسلوك مسلم مع حرصه على الألفاظ له ، فإنه أخرج في النكاح من ( صحيحه ) عن محمد بن عبد الله بن نمير ، عن عبد الله بن يزيد المقرئ ، [ ص: 208 ] عن حيوة بن شريح ، عن شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو حديث : ( الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ) . فإن هذا الحديث قد أخرجه النسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن أبيه ، عن حيوة ، وذكر آخر ، كلاهما عن شرحبيل به .

وكذا أخرجه ابن حبان في ( صحيحه ) من حديث الحسين بن عيسى البسطامي ، عن المقرئ ، عن حيوة وذكر آخر قالا : ثنا شرحبيل . وأخرجه أحمد في ( مسنده ) عن أبي عبد الرحمن المقرئ ، عن حيوة وابن لهيعة قالا : ثنا شرحبيل . إذ الظاهر من تشديد مسلم حيث حذف المجروح أنه أورده بلفظ الثقة إن لم يتحد لفظهما .

ونحوه ما وقع له في موضع آخر من ( صحيحه ) حيث أخرج من طريق ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن شريح ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عبد الله بن عمرو حديث : ( إن الله لا يقبض العلم ) . ولم يسق لفظه ، بل أحال به على طريق هشام بن عروة المشهورة ، فتبين من تصنيف ابن وهب فيما أفاده ابن طاهر أن اللفظ لابن لهيعة .

وذلك أن ابن وهب أخرجه عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود . وساق الإسناد والمتن ثم عقبه بأن قال : وأخبرني عبد الرحمن بن شريح ، عن أبي الأسود بذلك .

لكن أفاد شيخنا في هذا المتن بخصوصه أن حذف ابن لهيعة من ابن وهب لا من مسلم ، وأنه كان يجمع بين شيخيه تارة ، ويفرد ابن شريح أخرى ، بل لابن وهب فيه شيخان آخران بسند آخر أخرجه ابن عبد البر في ( بيان العلم ) له من طريق سحنون : ثنا ابن وهب : ثنا مالك وسعيد بن عبد الرحمن ، كلاهما عن هشام [ ص: 209 ] باللفظ المشهور .

( ومسلم ) أيضا ( عنه ) أي عن المجروح ربما ( كنى ) حيث يصرح بالثقة ثم يقول : وآخر . وهو منه قليل بخلافه من البخاري ، فإنه أورد في تفسير النساء وآخر الطلاق والفتن وعدة أماكن ، من طريق حيوة وغيره .

وفي ( الاعتصام ) من طريق ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن شريح وغيره . والغير في هذه الأماكن كلها هو ابن لهيعة بلا شك ، وكذا أورد في الطب من رواية ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث وغيره ، وهو أيضا هو ، لكن فيما يغلب على الظن .

وفي العتق من رواية ابن وهب ، عن مالك وابن فلان كلاهما ، عن سعيد المقبري . والمبهم هنا هو عبد الله بن زيادة بن سمعان . وكذا أكثر منه النسائي وغيره ( فلم يوف ) مسلم ولا غيره ممن أشرنا إليه بالخروج من عهدة المجروح إن اختص عن الثقة بزيادة ، لكن الظن القوي بالشيخين أنهما علما اتفاقهما ولو بالمعنى .

ولهذا الصنيع حينئذ فائدتان ، وهما الإشعار بضعف المبهم وكونه ليس من شرطه ، وكثرة الطرق التي يرجح بها عند المعارضة . وإن أشار الخطيب إلى أنه لا فائدة في هذه الصورة الخاصة فضلا عن غيرها ، قال : لأنه إن كان لأجل ما اعتللنا به فخبر المجهول لا تتعلق به الأحكام ، إذ [ ص: 210 ] إثبات ذكره وإسقاطه سواء ، وإن كان عول على معرفته هو به ; فلماذا ذكره بالكناية عنه ، وليس بمحل للأمانة عنده .

قال : ولا أحسب استجازة إسقاطه ذكره والاقتصار على الثقة إلا لأن الظاهر اتفاق الروايتين في لفظ الحديث . يعني ممن يحرص على الألفاظ ، كمسلم الذي الاحتجاج بصنيعه فيه أعلى أو في معناه ، إن لم يتقيد باللفظ ، واحتاط في ذلك بذكر الكناية عنه مع الثقة تورعا ، وإن كان لا حاجة به إليه .

وقد أشار أبو بكر الإسماعيلي في ( مدخله ) إلى أنه في ( مستخرجه ) تارة يحذف الضعيف ، وتارة ينبه عليه فقال : وإذا كتبت الحديث - فيه أي في ( المستخرج ) - عن رجل يرويه عن جماعة ، وأحدهم ليس من شرط هذا الكتاب ; فإما أن أترك ذكره وأكتفي بالثقة الذي الضعيف مقرون إليه ، أو أنبه على أنه محكي عنه في الجملة ، وليس من شرط الكتاب . انتهى .

وإذا تقررت صحة حذف المجروح فالظاهر عدم صحة الاقتصار عليه ; لما قد ينشأ عنه من تضعيف المتن وعدم الاحتجاج به للقاصر أو المستروح ، وفيه من الضرر ما لا يخفى .

[ حكم إسقاط أحد الثقتين ] :

( و ) أما ( الحذف ) لأحد الراويين ( حيث وثقا ) كما وقع للبخاري في تفسير المدثر ، فإنه روى عن محمد بن بشار ، عن ابن مهدي وغيره كلاهما ، عن حرب بن شداد حديثا . وفسر الغير بأنه أبو داود الطيالسي الذي لم يخرج له البخاري شيئا ، ( فهو أخف ) مما قبله ; لأنه وإن تطرق مثل الاحتمال المذكور أولا إليه ، وهو كون شيء منه عن المحذوف خاصة فمحذور الإسقاط فيه أقل ; لأنه لا يخرج عن كون الراوي ثقة كما إذا قال : [ ص: 211 ] أخبرني فلان أو فلان . فإنه إن كانا ثقتين فالحجة به قائمة ; لأنه دائر بين ثقتين ، وإن كان أحدهما غير ثقة ، وهو نحو الصورة الأولى ، لا يكون الخبر حجة ، لاحتمال اختصاصه بشيء من الخبر عن الآخر ، وإن كان الظاهر من المحتري خلافه كما قرر .

التالي السابق


الخدمات العلمية