الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ الاجتناب عن كتم المسموعات ] :

( واجتنب ) أيها الطالب ( كتم السماع ) الذي ظفرت به لشيخ معلوم ، أو كتم شيخ اختصصت بمعرفته عمن لم يطلع على ذلك من إخوانك الطلبة ; رجاء الانفراد به عن أضرابك ، ( فهو ) ; أي : الكتم ، ( لؤم ) من فاعله يقع من جهلة الطلبة الوضعاء كثيرا ، ويخاف على مرتكبه عدم الانتفاع به ; إذ بركة الحديث إفادته ، وبنشره ينمى ويعم نفعه .

قال مالك : بركة الحديث إفادة [ ص: 292 ] الناس بعضهم بعضا . وقال ابن المبارك : أول منفعة الحديث أن يفيد بعضكم بعضا . وعن الثوري أنه قال : يا معشر الشباب ، تعجلوا بركة هذا العلم ; فإنكم لا تدرون لعلكم لا تبلغون ما تأملون منه ، ليفد بعضكم بعضا ، ومعلوم أن الدين النصيحة .

بل يروى كما عند الخطيب في جامعه وأبي نعيم في ( رياضة المتعلمين ) عن ابن عباس مرفوعا : ( يا إخواني تناصحوا في العلم ، ولا يكتم بعضكم بعضا ; فإن خيانة الرجل في علمه كخيانته في ماله ، والله سائلكم عنه ) . وهو عند أبي نعيم في ( الحلية ) بلفظ : ( فإن خيانة في العلم أشد من خيانة في المال ) .

ولهذا قال الخطيب : والذي نستحبه إفادة الحديث لمن لم يسمعه ، والدلالة على الشيوخ ، والتنبيه على رواياتهم ; فإن أقل ما في ذلك النصح للطالب ، والحفظ للمطلوب مع ما يكتسب به من جزيل الأجر ، وجميل الذكر .

وأغرب ابن مسدى فحكى عن ابن المفضل أنه كان يختار سماع العالي لنفسه ، وأن أبا الربيع بن سالم كتب إلى السلفي يطلب منه أن يستجيز له بقايا [ ص: 293 ] ممن يروي عن أصحاب الخطيب ، فكتب إليه بانقراضهم قبل الستمائة ، وليس كذلك ، فآخرهم كان في سنة ثلاث عشرة وستمائة ، قال : وهكذا رأيت نبلاء أصحابه بمصر وإسكندرية يغارون على هذا أشد الغيرة ما خلا الأسعد بن مقرب ; فإنه كان مفيدا ، وعندي في هذا توقف كبير ، وقد أشرت لرد ما نسبه ابن مسدى إليهما أيضا مما يشبه هذا في كتابة التسميع .

وكذا اجتنب منع عارية الجزء أو الكتاب المسموع للقراءة فيه أو السماع والكتابة منه ، لا سيما حيث لم تتعدد نسخه ; فإنها تتأكد ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من كتم علما يعلمه ألجم بلجام من نار ) ، فهو شامل لهذا ، وهذه العارية غير الماضية في كتابة التسميع فتلك مضى الكلام فيها مع الحكاية عن كل من إسحاق بن راهويه وابن الصلاح أنه قال : قد رأينا أقوامنا منعوا هذا السماع ، فوالله ما أفلحوا ولا أنجحوا .

ونحوه قول من تأخر عنه أيضا : ولقد شاهدنا جماعة كانوا يستأثرون بالسماع ، ويخفون الشيوخ ، ويمنعون الأجزاء والكتب عن الطلبة ، فحرمهم الله قصدهم ، وذهبوا ولم ينتفعوا بشيء .

وكذا أقول : وكيف لا ؟ وقد قال وكيع : أول بركة الحديث إعارة الكتب ، اللهم إلا أن يكتم عمن لم يره أهلا ، أو يكون ممن لا يقبل الصواب إذا أرشد إليه ، ونحو ذلك كما فعله السلف الصالح .

وقد قال الخطيب : من أداه - لجهله - فرط التيه والإعجاب إلى المحامات عن الخطأ ، والمماراة في الصواب ، فهو بذلك الوصف مذموم مأثوم ، ومحتجر الفائدة عنه غير مؤنب ولا ملوم .

وساق عن الخليل بن أحمد أنه قال لأبي عبيدة معمر بن المثنى : لا تردن على [ ص: 294 ] معجب خطا فيستفيد منك علما ، ويتخذك به عدوا .

وقد قيل فيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم : ( إن من القول عيالا ) ، هو عرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده .

وإذا أفادك أحد من رفقائك ونحوهم شيئا فاعز ذلك إليه ، ولا توهم الناس أنه من قبل نفسك ، فقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيما رويناه في ( المدخل ) للبيهقي و ( الجامع ) للخطيب : إن من شكر العلم أن تجلس مع الرجل فتذاكره بشيء لا تعرفه فيذكره لك ، ثم ترويه وتقول : إنه والله ما كان عندي في هذا شيء حتى سمعت فلانا يقول فيه كذا وكذا ، فتعلمته ، فإذا فعلت ذلك فقد شكرت العلم .

وسأل إنسان يونس بن عبد الأعلى عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أقروا الطير على مكناتها ) ، فقال : إن الله يحب الحق ، إن الشافعي كان صاحب ذا ، سمعته يقول في تفسيره : يقال ، وذكره . ولا ينافي ذلك رغبة من شاء الله من العلماء في مجرد الإرشاد بالعلم من غير ملاحظة لعزوه إليهم ; كالشافعي [ ص: 295 ] حيث قال : وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ، ولا ينسب إلي منه شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية