الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3300 ) فصل : ويجوز أن يستعير شيئا يرهنه . قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم ، على أن الرجل إذا استعار من الرجل شيئا يرهنه على دنانير معلومة ، عند رجل سماه ، إلى وقت معلوم ، ففعل ، أن ذلك جائز . وينبغي أن يذكر المرتهن ، والقدر الذي يرهنه به ، وجنسه ، ومدة الرهن ; لأن الضرر يختلف بذلك ، فاحتيج إلى ذكره ، كأصل الرهن ، ومتى شرط شيئا من ذلك ، فخالف ، ورهنه بغيره ، لم يصح الرهن ; لأنه لم يؤذن له في هذا الرهن ، فأشبه من لم يأذن في أصل الرهن ، قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على ذلك . وإن أذن له في رهنه بقدر من المال ، فنقص عنه ، مثل أن يأذن له في رهنه بمائة ، فيرهنه بخمسين ، صح ; لأن من أذن في مائة ، فقد أذن في خمسين .

                                                                                                                                            وإن رهنه بأكثر ، مثل أن رهنه بمائة وخمسين ، احتمل أن يبطل في الكل ; لأنه خالف المنصوص عليه ، فبطل ، كما لو قال : ارهنه بدنانير . فرهنه بدراهم أو بحال فرهنه بمؤجل أو بمؤجل . فرهنه بحال ، فإنه لا يصح . كذلك هاهنا . وهذا منصوص الشافعي .

                                                                                                                                            والوجه الثاني ، أنه يصح في المائة ، ويبطل في الزائد عليها ; لأن العقد تناول ما يجوز وما لا يجوز ، فجاز فيما دون غيره ، كتفريق الصفقة . ويفارق ما ذكرنا من الأصول ; فإن العقد لم يتناول مأذونا فيه بحال ، وكل واحد من هذه الأمور يتعلق به غرض لا يوجد في الآخر ، فإن الراهن قد يقدر على فكاكه في الحال ، ولا يقدر على ذلك عند الأجل وبالعكس . وقد يقدر على فكاكه بأحد النقدين دون الآخر ، فيفوت الغرض بالمخالفة ، وفي مسألتنا إذا صح في المائة المأذون فيها لم يختلف الغرض ، فإن أطلق الرهن في الإذن من غير تعيين ، فقال القاضي : يصح ، وله رهنه بما شاء . وهو قول أصحاب [ ص: 226 ] الرأي ، وأحد قولي الشافعي .

                                                                                                                                            والآخر : لا يجوز حتى يبين قدر الذي يرهنه به ، وصفته ، وحلوله ، وتأجيله ; لأن هذا بمنزلة الضمان ، لأن منفعة العبد لسيده ، والعارية ما أفادت المنفعة ، إنما حصلت له نفعا يكون الرهن وثيقة عنه ، فهو بمنزلة الضمان في ذمته ، وضمان المجهول لا يصح . ولنا ، أنها عارية ، فلم يشترط لصحتها ذكر ذلك ، كالعارية لغير الرهن ، والدليل على أنه عارية أنه قبض ملك غيره لمنفعة نفسه ، منفردا بها من غير عوض ، فكان عارية ، كقبضه للخدمة . وقولهم : إنه ضمان . غير صحيح ; لأن الضمان يثبت في الذمة ، ولهذا ثبت في الرقبة ، ولأن الضمان لازم في حق الضامن ، وهذا له الرجوع في العبد قبل الرهن ، وإلزام المستعير بفكاكه بعده .

                                                                                                                                            وقولهم : إن المنافع للسيد . قلنا : المنافع مختلفة ، فيجوز أن يستعيره لتحصيل منفعة واحدة وسائر المنافع للسيد ، كما لو استعاره لحفظ متاع وهو مع ذلك يخيط لسيده . أو يعمل له شيئا ، أو استعاره ليخيط له ، ويحفظ المتاع لسيده . فإن قيل : لو كان عارية لما صح رهنه ; لأن العارية لا تلزم ، والرهن لازم .

                                                                                                                                            قلنا : العارية غير لازمة من جهة المستعير ; فإن لصاحب العبد المطالبة بفكاكه قبل حلول الدين . ولأن العارية قد تكون لازمة ، بدليل ما لو أعاره حائطا ليبني عليه ، أو أرضا ليدفن فيها ، أو ليزرع فيها ما لا يحصد قصيلا . إذ ثبت هذا ، فإنه يصح رهنه بما شاء ، إلى أي وقت شاء ، ممن شاء ; لأن الإذن يتناول الكل بإطلاقه ، وللسيد مطالبة الراهن بفكاك الرهن ، حالا كان أو مؤجلا ، في محل الحق وقبل محله ; لأن العارية لا تلزم .

                                                                                                                                            ومتى حل الحق فلم يقبضه ، فللمرتهن بيع الرهن . واستيفاء الدين من ثمنه ، ويرجع المعير على الراهن بالضمان ، وهو قيمة العين المستعارة ، أو مثلها إن كانت من ذوات الأمثال ، ولا يرجع بما بيعت به ، سواء بيعت بأقل من القيمة أو أكثر ، في أحد الوجهين . والصحيح أنها إن بيعت بأقل من قيمتها ، رجع بالقيمة ; لأن العارية مضمونة ، فيضمن نقص ثمنها ، وإن بيعت بأكثر ، رجع بما بيعت به ; لأن العبد ملك للمعير ، فيكون ثمنه كله له . وكذلك لو أسقط المرتهن حقه عن الراهن ، رجع الثمن كله إلى صاحبه . فإذا قضى به دين الراهن ، رجع به عليه ، ولا يلزم من وجوب ضمان النقص أن لا تكون الزيادة لصاحب العبد ، كما لو كان باقيا بعينه ، وإن تلف الرهن ضمنه الراهن بقيمته ، سواء تلف بتفريط أو غير تفريط . نص على هذا أحمد . وذلك لأن العارية مضمونة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية