الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم الزواج ممن يعمل في القضاء

السؤال

عقدت على شخص يعمل في القضاء، وكان قد وعدني قبل العقد أنه سيتخصص في مجال الأسرة؛ حتى يبتعد عن شبهة الحكم بغير ما أنزل الله، وبعد أن مرت حوالي ستة أشهر على العقد - قبل الدخلة - سألته عن وعده هذا، وقلت له: لا تعمل في مجال الجنح والجنايات، واعمل في المجالات الأخرى – كالأسرة، والعمال، والعقود - وكنت قد استفتيت شيوخًا ثقات فأفتوا أن العمل في هذا الفرع حرام - الجنح والجنايات في القانون المصري - لكنه قال: إنه ليس حرامًا، ولكني أشترط عليه لإتمام الزواج أن يبتعد عنه، وإن لم ينفذ ذلك بعد الزواج فسأطلب الانفصال؛ لأن ماله سيكون مختلطًا، وهذا أمر شاق عليّ جدًّا أن أعيش بهذا المال، فيقول: حسنًا، ثم يقول: اقنعيني بالكتاب والسنة بدليل قاطع وواضح، وليس فيه آراء أخرى، ويحتج بقوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض" فهو يرى أن النفي من الأرض هو الحكم بالسجن، فأريد منكم أدلة قاطعة على حرمة هذا المجال، وإذا لم يقتنع فماذا أفعل؟ وإذا عشت معه، وماله مختلط، فسيؤثر على علاقتي به، ولن أعيش في راحة بال أبدًا، وكذلك الفوائد على القروض والبنوك يقول: إنها حرام إذا كانت فاحشة فقط - على الألف ألفان مثلًا - أريد أدلة قاطعة على ذلك أيضًا، وإذا لم يفعل فهل أشترط أن يأخذ الفوائد لنفسه، ولا يصرفها عليّ، ولا على البيت، ولا على الأولاد؟ وإذا وافق على كل ذلك – العمل، والقروض - فكيف أتأكد أنه لم يوافق حتى يريحني فقط، ثم يفعل كل ذلك دون علمي؟ مع العلم أنه خريج شريعة وقانون جامعة الأزهر، ويدعي أنه يتقي الله، وأهلي سيغضبون عليّ إن لم أتمم هذا الزواج، ولم يبقَ على الدخلة إلا حوالي 20 يومًا من تاريخ إرسال السؤال للموقع، فأريد حلولًا وليس الأدلة فقط – أرجوكم - فأنا في عذاب شديد جدًّا، وأخشى أن يبتليني الله بمال حرام ليس لي ذنب فيه، وقد استخرت كثيرًا على هذا الزواج، والأمور تسير بسهولة، وأنا أعيش في صراع نفسي، فهل قد يبتليني الله بمال حرام وأنا لا أريد ذلك؟ وحتى لا أتعرض لعقوبته دعوت الله كثيرًا إذا كان ماله فيه حرام، أو شبهة حرام أن يبعدني عنه، وأن يرزقني الله بالمال الحلال، ويبعد عني الحرام، لكن ما زالت تأتيني وساوس أني قد أبتلى بذلك، أعتذر للإطالة - جزاكم الله خيرًا -.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فوجوب الحكم بما أنزل الله تعالى وضرورته من بينات القرآن الكريم التي ليس فيها لبس ولا إشكال، وتحريم الحكم بغير ما أنزل الله مما اتفق عليه أهل العلم قاطبة، وإنما اختلفوا في بعض صوره: هل هي من الكفر الأكبر المخرج من الملة، أم من كبائر الذنوب، والكفر الأصغر الذي يكون صاحبه منه على خطر! وآيات القرآن في هذه المسألة مشهورة معلومة في سورة النساء، وسورة المائدة، وسورة النور، وغيرها، وراجعي للفائدة الفتاوى ذوات الأرقام الآتية: 118443، 152085، 142585، 32864.
ولأهل العلم الكبار فتاوى واضحة في موضوع هذا السؤال، وننصح السائلة بالرجوع إلى كتاب: (فتاوى كبار علماء الأزهر الشريف في وجوب تعظيم الشريعة وتحكيمها) .

ولهيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء فتاوى كثيرة في ذلك، منها الفتوى التالية:
س: 1- إذا كنت قاضيا في دولة إسلامية، ولا تحكم بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل أجري حلال أو حرام؟
2 - وإذا كنت محاميا في تلك الدولة، فهل أجري حلال أو حرام؟
3 - وإذا كنت أستاذًا أدرس أحكام وقوانين غير إسلامية، فهل أجري حلال أو حرام؟
فأجابوا بما يلي:
أولًا: من تولى القضاء، وحكم بغير ما أنزل الله، له أحوال عدة:

1- من حكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية، مع علمه بذلك، واستحلاله إياه، وعدم مبالاته، فهو كافر بإجماع أهل العلم، وما يأخذه من الأجر، أو المرتب على ذلك سحت، وحرام بحت، لا يحل له أخذه.

2- من حكم بغير ما أنزله الله، مع علمه بذلك، لكنه غير مستحل له، ولا مستهتر، إنما حمله عليه في بعض الأحيان عصبية لقريب مثلًا، أو أخذ رشوة، أو سخط على من حكم عليه، أو غير ذلك من أنواع الهوى، فهو آثم، مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، غير أنها لا تخرجه من الإسلام، فهو مؤمن بما فيه من إيمان، عاص بارتكابه لكبيرة.
3 - من حكم بغير ما أنزل الله لجهله، فهو آثم، وعليه أن يعتزل القضاء، وأن يتوب إلى الله مما وقع منه؛ لكونه ليس أهلًا للقضاء، بل هو أحد القاضيين المتوعدين بالنار، وهما من قضى للناس على جهل، ومن جار في الحكم، ولا يحل له أن يأخذ عليه أجرًا.
4 - من حكم في قضية بغير الصواب بعد أن اجتهد فيها، وبذل وسعًا، وهو من أهل العلم في أحكام الشريعة، فهو غير آثم، بل هو مأجور على اجتهاده، وهو معذور في خطئه، ويجوز له أخذ الأجر، أو المرتب الذي جعل له.
ثانيًا: أما من يكون وكيلًا عن غيره، وهو ما يسمى عرفًا (المحامي) في قضية ما، في دولة تحكم بالقوانين الوضعية على خلاف الشريعة الإسلامية، فكل قضية يدافع فيها عن الباطل، عالمًا بذلك، مستندًا في دفاعه إلى القوانين الوضعية، فهو كافر إن استحل ذلك، أو كان مستهترًا لا يبالي بمعارضة الكتاب والسنة بما وضعه الناس من قوانين، وما يأخذه من الأجر على هذا فهو سحت، وكل قضية يدافع فيها عن الباطل، عالمًا بذلك، معتقدًا تحريمه، لكن حمله على ذلك طمعه في كسب القضية لينال الأجر عليها فهو آثم، مرتكب لجريمة من كبائر الذنوب، وما يأخذه من الأجر على ذلك سحت لا يحل له، أما إن دافع عن موكله في "قضية معتقدًا أنه محق شرعًا، واجتهد في ذلك بما يعرفه من أدلة التشريع الإسلامي، فهو مثاب على عمله، معذور في خطئه، مستحق للأجر على دفاعه، وأما من دافع عن حق في الواقع لأخيه وهو يعتقده حقًّا فهو مثاب، مستحق للأجر المتفق عليه، مع من وكله.

ثالثًا: تدريس القوانين الوضعية، أو دراستها، لتبيين زيفها، وتمييز حقها من باطلها، ولتوضيح سمو الشريعة الإسلامية، وكمالها، وشمولها لكل ما يصلح به حال العباد في عباداتهم، ومعاملاتهم جائز، وقد يجب إذا دعت إليه الحاجة إحقاقًا للحق، وإبطالًا للباطل، وتنبيهًا للأمة، وتوعية لها حتى تعتصم بدينها، ولا تنخدع بشبه المنحرفين، ومن يروج لتحكيم القوانين، ومثل هذا العمل يجوز أخذ الأجر عليه.

أما تدريس القوانين الوضعية رغبة فيها، وترويجًا لها، ومضاهاة لها بالتشريع الإسلامي، أو مناوأة له، فهذا محادة لله ولرسوله، وكفر صراح. اهـ.

وأما الاحتجاج بآية المحاربة، فهو مما يطول منه العجب، فإنها تتناول حدًّا واحدًا، وهو حد الحرابة، فإن سلمنا جدلًا أن السجن عقوبة شرعية، وأنها النفي المذكور في الآية، فهل يجوز الاستعاضة عن القطع، والجلد في حد السرقة، وحد الزنا، وحد القذف بالسجن؟ وهل هذا إلا إلغاء للعقوبات الشرعية التي نص عليها القرآن؟! ثم أين الحكم بحرمة الربا، وشرب الخمر، ونحو ذلك من محارم الله التي نص عليه القرآن، ولا تعتبر جريمة يعاقَب عليها في القانون الوضعي، بل تُحمى بقوة القانون في كثير من الأحيان؟!

وأما التفريق بين الربا القليل والربا الفاحش: فهذا من تحكيم الهوى في شريعة الله تعالى؛ فقد أطلقت النصوص الشرعية تحريم الربا دون تقييد بالكثرة، أو الفحش، وأجمع على ذلك المعتبرون من أهل العلم، وراجعي الفتويين: 60856، 111255.

وإن كان زوجك يقول بذلك استنادًا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً {آل عمران: 130} فليست هي على ما فهمه بإجماع أهل العلم، ويكفيه أن يراجع (التفسير الوسيط) الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وفيه: هذه الآية في تحريم ربا النسيئة، أي التأْجيل، فهو الذي كان يزيد بالتأجيل أضعافًا مضاعفة، وكان مشهورًا في الجاهلية، وقد سبق في سورة البقرة ما يدل على تحريم قليل الربا وكثيره، عاجله وآجله، وأَن ليس للدائن سوى رأس ماله، وَقَد حَرَّمَتهُ السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ الله آكل الربا، وموكله، وشاهده، وكاتبه، والْمُحَلَلَ له" ... والربا حرام مطلقًا، وإِن لم يُضَعّف كما تقدم، وليس قوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} قيدًا في التحريم، وإِنما جاءَ لبيان ما كان عليه الحال في ربا الجاهلية. اهـ.

وقال أبو إسحاق الزجاج في (معاني القرآن وإعرابه) عند هذه الآية: الربا قليلهُ وكثيرهُ قد حُرّم في قوله جلَّ وعزَّ: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وإِنما كان هذا لأن قوماً من أهل الطائف كانوا يُربون، فإذا بلغ الأجل زادوا فيه، وضاعفوا الربا. اهـ.

وأما بالنسبة للحل الذي تسأل عنه الأخت السائلة، فنرى أنه لا بد من المصارحة، فحاوري زوجك بأسلوب مناسب، وبيني له أنه لا يمكنك العيش في بيت يقتات من حرام، ولا أن تركني إلى زوج تعتقدين أن عمله حرام، فإن وافقك الرأي، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإن أصر على موقفه الخاطئ، فمثل هذا لا ينصح بالزواج منه، بل فراقه خير وأسلم، وراجعي للفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 106331، 34379، 135443.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني