[ ص: 493 ] الفصل الرابع  
فيما لا إجمال فيه   
وهو أمور قد يحصل فيها الاشتباه على البعض ، فيجعلها داخلة في قسم المجمل وليست منه .  
( الأول ) : في  الألفاظ التي علق التحريم فيها على الأعيان   كقوله تعالى :  حرمت عليكم الميتة   ،  حرمت عليكم أمهاتكم      .  
فذهب الجمهور إلى أنه لا إجمال في ذلك .  
وقال  الكرخي  ،  والبصري  إنها مجملة .  
احتج الجمهور : بأن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل : هذا طعام حرام ، هو تحريم أكله ، ومن قول القائل : " هذه المرأة حرام " هو تحريم وطئها .  
وتبادر الفهم دليل الحقيقة ، فالمفهوم من قوله تعالى :  حرمت عليكم الميتة   وهو تحريم الأكل ; لأن ذلك هو المطلوب من تلك الأعيان ، وكذا قوله تعالى :  حرمت عليكم أمهاتكم   فإن المفهوم منه هو تحريم الوطء .  
واحتج  الكرخي  والبصري     : بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة ، فكيف إذا كانت موجودة ، فإذا لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره ، بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان ، وذلك الفعل غير مذكور ، وليس بعضها أولى من بعض ، فإما أن يضمر الكل وهو محال لأنه إضمار من غير حاجة وهو غير جائز ، أو يتوقف في الكل ، وهو المطلوب .  
وأيضا فإنها لو دلت على تحريم فعل معين لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع وليس كذلك .  
وأجيب : بأنه لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان ، لكن قوله ليس إضمار بعض الأحكام أولى من بعض ممنوع ، فإن العرف يقتضي إضافة التحريم إلى الفعل المطلوب منه ، وهو تحريم الاستمتاع ، وتحريم الأكل ، فهذا البعض متضح متعين      [ ص: 494 ] بالعرف .  
( الثاني ) : لا إجمال في مثل  قوله تعالى :  وامسحوا برءوسكم    وإلى ذلك ذهب الجمهور .  
وذهب الحنفية إلى أنه مجمل ; لتردده بين الكل والبعض ، والسنة بينت البعض ، وحكاه في المعتمد عن  أبي عبد الله البصري     .  
ثم اختلف القائلون بأن لا إجمال ، فقالت المالكية : إنه يقتضي مسح الجميع ; لأن الرأس حقيقة في جميعه ، والباء إنما دخلت للإلصاق .  
وقال   الشريف المرتضى  فيما حكاه عنه صاحب المصادر : إنه يقتضي التبعيض .  
قال : لأن المسح فعل متعد بنفسه ، غير محتاج إلى حرف التعدية ، بدليل قوله : " مسحته كله " ، فينبغي أن يفيد دخول الباء فائدة جديدة ، فلو لم يفد البعض لبقي اللفظ عاريا عن الفائدة .  
وقالت طائفة : إنه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم ، وهو القدر المشترك بين مسح الكل والبعض ، فيصدق بمسح البعض ، ونسبه في المحصول إلى   الشافعي     . قال  البيضاوي  وهو الحق .  
ونقل   ابن الحاجب  عن   الشافعي  وأبي الحسين  ،  وعبد الجبار  ثبوت البعض بالعرف .  
والذي في المعتمد  لأبي الحسين  وعبد الجبار  أنها تفيد في اللغة تعميم مسح الجميع ; لأنه متعلق بما سمي رأسا وهو اسم لجملة الرأس ، لا للبعض ، ولكن العرف يقتضي إلصاق  المسح بالرأس   ، إما بجميعه ، وإما ببعضه فيحمل الاسم عليه .  
وعبارة   الشافعي  في كتاب أحكام القرآن : أن من مسح من رأسه شيئا فقد مسح برأسه ، ولم تحتمل الآية إلا هذا . قال : " فدلت السنة أنه ليس على المرء مسح رأسه      [ ص: 495 ] كله ، وإذا دلت السنة على ذلك فمعنى الآية : أن من مسح شيئا من رأسه أجزأه انتهى .  
فلم يثبت التبعيض بالعرف كما زعم   ابن الحاجب     .  
ولا يخفاك أن الأفعال المنسوبة إلى الذوات تصدق بالبعض حقيقة لغوية ، فمن قال : ضربت رأس زيد ، وضربت برأسه ، صدق ذلك بوقوع الفعل على جزء من الرأس ، فهكذا مسحت رأس زيد ، ومسحت برأسه .  
وعلى كل حال فقد جاء في السنة المطهرة مسح كل الرأس ، ومسح بعضه ، فكان ذلك دليلا مستقلا على أنه يجزئ مسح البعض ، سواء كانت الآية من قبيل المجمل أم لا .  
( الثالث ) : لا إجمال في مثل  قوله تعالى :  والسارق والسارقة فاقطعوا    عند الجمهور .  
وقال بعض الحنفية : إنها مجملة إذ اليد العضو من المنكب ، والمرفق ، والكوع ، لاستعمالها فيها ، والقطع للإبانة ، والشق لاستعماله فيهما .  
وأجاب الجمهور : بأن اليد تستعمل مطلقة ومقيدة ، فالمطلقة تنصرف إلى الكوع بدليل آية التيمم ، وآية السرقة ، وآية المحاربة .  
وأجاب بعضهم : بأن اليد حقيقة في العضو إلى المنكب ، ولما دونه مجاز ، فلا إجمال في الآية وهذا هو الصواب .  
وقد جاءت السنة بأن  القطع من الكوع   فكان ذلك مقتضيا للمصير إلى المعنى المجازي في الآية .  
ويجاب عما ذكر في القطع : بأن الإجمال إنما يكون مع عدم الظهور في أحد      [ ص: 496 ] المعنيين ، وهو ظاهر في القطع ، لا في الشق الذي هو مجرد قطع بدون إبانة .  
( الرابع ) : لا إجمال في نحو  لا صلاة إلا بطهور  ،  لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب     .  لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل     .  لا نكاح إلا بولي     .  لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد     .  
وإلى ذلك ذهب الجمهور ، قالوا : لأنه إن ثبت عرف شرعي في إطلاقه للصحيح كان معناه لا صلاة صحيحة ، ولا صيام صحيحا ، ولا نكاح صحيحا ، فلا إجمال .  
وإن لم يثبت عرف شرعي فإن ثبت فيه عرف لغوي ، وهو أن مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى ، نحو : لا علم إلا ما نفع ، ولا كلام إلا ما أفاد ، فيتعين ذلك فلا إجمال .  
وإن قدر انتفاؤهما فالأولى حمله على نفي الصحة دون الكمال ; لأن ما لا يصح كالعدم في عدم الجدوى ، بخلاف ما لا يكمل فكان أقرب المجازين إلى الحقيقة المتعذرة ، فلا إجمال ، وهذا بناء منهم على أن الحقيقة متعذرة لوجود الذات في الخارج .  
 [ ص: 497 ] ويمكن أن يقال : إن المنفي هو الذات الشرعية ، والتي وجدت ليست بذات شرعية ، فيبقى حمل الكلام على حقيقته ، وهي نفي الذات الشرعية ، فإن دل دليل على أنه لا يتوجه النفي إليها كان توجهه إلى الصحة أولى ; لأنها أقرب المجازين ، إذ توجيهه إلى نفي الصحة يستلزم نفي الذات حقيقة بخلاف توجيهه إلى الكمال ، فإنه لا يستلزم نفي الذات ، فكان توجيهه إلى الصحة أقرب المجازين إليها فلا إجمال ، وليس هذا من باب إثبات اللغة بالترجيح ، بل من باب ترجيح أحد المجازين على الآخر بدليل .  
وذهب   القاضي أبو بكر الباقلاني  ،   والقاضي عبد الجبار   وأبو علي الجبائي ،  وابنه  أبو هاشم  ،  وأبو عبد الله البصري  إلى أنه مجمل ، ونقله الأستاذ  أبو منصور  عن أهل الرأي .  
واختلف هؤلاء في تقرير الإجمال على ثلاثة وجوه :  
( الأول ) : أنه ظاهر في نفي الوجود ، وهو لا يمكن لأنه واقع قطعا ، فاقتضى ذلك الإجمال .  
( الثاني ) : أنه ظاهر في نفي الوجود ، ونفي الحكم ، فصار مجملا .  
( الثالث ) : أنه متردد بين نفي الجواز ، ونفي الوجوب ، فصار مجملا ، قال بعض هؤلاء في تقرير الإجمال : إنه إما أن يحمل على الكل وهو إضمار من غير ضرورة ، ولأنه قد يفضي أيضا إلى التناقض ; لأنا لو حملناه على نفي الصحة ، ونفي الكمال معا : كان نفي الصحة يقتضي نفيها ، ونفيها يستلزم نفي الذات ، وكان نفي الكمال يقتضي ثبوت الصحة ، فكان مجملا من هذه الحيثية ، وهذا كله مدفوع بما تقدم .  
( الخامس ) : لا إجمال في نحو  قوله :  رفع عن أمتي الخطأ والنسيان   مما ينفي فيه صفة ، والمراد نفي لازم من لوازمه ، وإلى ذلك ذهب الجمهور ; لأن العرف في مثله قبل ورود الشرع نفي المؤاخذة ، ورفع العقوبة ، فإن السيد إذا قال لعبده : " رفعت عنك الخطأ " كان المفهوم منه أني لا أؤاخذك به ، ولا أعاقبك عليه ، فلا إجمال .  
 [ ص: 498 ] قال   الغزالي     : قضية اللفظ رفع نفس الخطأ والنسيان ، وهو غير معقول ، فالمراد به رفع حكمه ، لا على الإطلاق ، بل الحكم الذي علم بعرف الاستعمال قبل الشرع ، وهو رفع الإثم ، فليس بعام في جميع أحكامه ، من الضمان ولزوم القضاء ، وغيرهما .  
وقال  أبو الحسين     :  وأبو عبد الله البصري     : إنه مجمل ; لأن ظاهره رفع نفس الخطأ والنسيان وقد وقعا .  
وقد حكى شارح المحصول في هذه المسألة ثلاثة مذاهب :  
أحدها : أنه مجمل .  
والثاني : الحمل على رفع العقاب آجلا ، والإثم عاجلا ، قال : وهو مذهب   الغزالي     .  
والثالث : رفع جميع الأحكام الشرعية ، واختاره  الرازي  في المحصول .  
وممن حكى هذه الثلاثة المذاهب   القاضي عبد الوهاب  في الملخص ، ونسب الثالث إلى أكثر الفقهاء من الشافعية ، والمالكية ، واختار هو الثاني .  
والحق ما ذهب إليه الجمهور للوجه الذي قدمنا ذكره .  
( السادس ) : إذا  دار لفظ الشارع بين مدلولين إن حمل على أحدهما أفاد معنى واحدا ، وإن حمل على الآخر أفاد معنيين ولا ظهور له في أحد المعنيين اللذين دار بينهما   ، قال  الصفي الهندي     : ذهب الأكثرون إلى أنه ليس بمجمل بل هو ظاهر في إفادة المعنيين اللذين هما أحد مدلوليه .  
وذهب الأقلون إلى أنه مجمل ، وبه قال   الغزالي  ، واختاره   ابن الحاجب     .  
واختار الأول   الآمدي     ; لتكثير الفائدة .  
قال   الآمدي ،  والهندي     : محل الخلاف إنما هو فيما إذا لم يكن حقيقة في المعنيين ، فإنه يكون مجملا أو حقيقة في أحدهما ، فالحقيقة مرجحة قطعا وظاهره جعل الخلاف فيما إذا كانا مجازين ; لأنهما إذا لم يكونا حقيقتين ، ولا أحدهما حقيقة      [ ص: 499 ] والآخر مجازا ; فما بقي إلا أن يكونا مجازين .  
قال  الزركشي  والحق أن صورة المسألة أعم من ذلك ، وهو اللفظ المحتمل لمتساويين ، سواء كانا حقيقتين أو مجازين ، أو أحدهما حقيقة مرجوحة ، والآخر مجازا راجحا عند القائل بتساويهما ، ويكون ذلك باعتبار الظهور والخفاء انتهى .  
والحق أنه مع عدم الظهور في أحد مدلوليه يكون مجملا ، ولا يصح جعل تكثير الفائدة مرجحا ، ولا رافعا للإجمال ، فإن أكثر الألفاظ ليس لها إلا معنى واحد ، فليس الحمل على كثرة الفائدة بأولى من الحمل على المعنى الواحد لهذه الكثيرة التي لا خلاف فيها .  
( السابع ) : لا إجمال  فيما كان له مسمى لغوي ، ومسمى شرعي   ، كالصوم والصلاة عند الجمهور ، بل يجب الحمل على المعنى الشرعي ; لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث لبيان الشرعيات ، لا لبيان معاني الألفاظ اللغوية ، والشرع طارئ على اللغة ، وناسخ لها ، فالحمل على الناسخ المتأخر أولى .  
وذهب جماعة إلى أنه مجمل ، ونقله الأستاذ  أبو منصور  عن أكثر أصحاب   الشافعي     .  
وذهب جماعة إلى التفصيل بين أن يرد على طريقة الإثبات ، فيحمل على المعنى الشرعي ، وبين أن يرد على طريقة النفي فمجمل ; لتردده .  
( فالأول ) : كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - إني صائم فيستفاد منه صحة نية النهار .  
( والثاني ) : كالنهي عن صوم أيام التشريق فلا يستفاد منه صحة صومها ، واختار      [ ص: 500 ] هذا التفصيل   الغزالي  وليس بشيء .  
وثم مذهب رابع ، وهو أنه لا إجمال في الإثبات الشرعي ، والنهي اللغوي ، واختاره   الآمدي  ولا وجه له أيضا .  
والحق ما ذهب إليه الأولون ; لما تقدم .  
وهكذا  إذا كان للفظ محمل شرعي ، ومحمل لغوي   ، فإنه يحمل على المحمل الشرعي ، لما تقدم .  
وهكذا إذا كان له مسمى شرعي ومسمى لغوي ، فإنه يحمل على الشرعي ; لما تقدم أيضا .  
وهكذا  إذا تردد اللفظ بين المسمى العرفي واللغوي      ; فإنه يقدم العرفي على اللغوي ; ( لأنه المتبادر عند المخاطبين ) .  
				
						
						
