[ ص: 501 ] الفصل الخامس  
في  مراتب البيان للأحكام   
وهي خمسة ، بعضها أوضح من بعض :  
( الأول ) :  بيان التأكيد   ، وهو النص الجلي الذي لا يتطرق إليه تأويل ، كقوله تعالى في صوم التمتع :  فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة   وسماه بعضهم بيان التقرير .  
وحاصله أنه في الحقيقة التي تحتمل المجاز والعام المخصوص ، فيكون البيان قاطعا للاحتمال ، مقررا للحكم على ما اقتضاه الظاهر .  
( الثاني ) :  النص الذي ينفرد بإدراكه العلماء   ، كالواو وإلى في آية الوضوء . فإن هذين الحرفين مقتضيان لمعان معلومة عند أهل اللسان .  
( الثالث ) :  نصوص السنة الواردة بيانا لمشكل في القرآن   ، كالنص على ما يخرج عند الحصاد مع قوله تعالى :  وآتوا حقه يوم حصاده   ولم يذكر في القرآن مقدار هذا الحق .  
( الرابع ) :  نصوص السنة المبتدأة ، مما ليس في القرآن نص عليها لا بالإجمال ، ولا بالتبيين   ، ودليل كون هذا القسم من بيان الكتاب قوله تعالى :  وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا      .  
( الخامس ) :  بيان الإشارة   ، وهو القياس المستنبط من الكتاب والسنة ، مثل الألفاظ التي استنبطت منها المعاني ، وقيس عليها غيرها ; لأن الأصل إذا استنبط منه معنى ، وألحق به غيره ، لا يقال لم يتناوله النص ، بل تناوله ; لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أشار إليه بالتنبيه ، كإلحاق المطعومات في باب الربوبيات بالأربعة المنصوص عليها ; لأن حقيقة القياس : بيان المراد بالنص ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل التكليف      [ ص: 502 ] بالاعتبار والاستنباط والاجتهاد .  
ذكر هذه المراتب الخمس للبيان   الشافعي  في أول الرسالة .  
وقد اعترض عليه قوم وقالوا : قد أهمل قسمين ، وهما الإجماع ، وقول المجتهد ، إذا انقرض عصره ، وانتشر من غير نكير .  
قال  الزركشي  في البحر : إنما أهملهما   الشافعي     ; لأن كل واحد منهما إنما يتوصل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها   الشافعي     ; لأن الإجماع لا يصدر إلا عن دليل ، فإن كان نصا فهو من الأقسام الأول ، وإن كان استنباطا فهو الخامس .  
قال  ابن السمعاني  يقع بيان المجمل بستة أوجه :  
أحدها بالقول وهو الأكثر .  
( والثاني ) : بالفعل .  
( والثالث ) : بالكتاب كبيان أسنان الديات ، وديات الأعضاء ، ومقادير الزكاة ، فإنه - صلى الله عليه وآله وسلم - بينها بكتبه المشهورة .  
( والرابع ) : بالإشارة ، كقوله :  الشهر هكذا ، وهكذا ، وهكذا  يعني ثلاثين يوما ، ثم أعاد الإشارة بأصابعه ثلاث مرات ، وحبس إبهامه في الثالثة ; إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين .  
( والخامس ) : بالتنبيه ، وهو المعاني والعلل التي نبه بها على بيان الأحكام ، كقوله في      [ ص: 503 ] بيع الرطب بالتمر :  أينقص الرطب إذا جف  وقوله في قبلة الصائم  أرأيت لو تمضمضت     .  
( السادس ) : ما خص العلماء بيانه عن اجتهاد ، وهو ما فيه الوجوه الخمسة ، إذا كان الاجتهاد موصولا إليه من أحد وجهين ، إما من أصل يعتبر هذا الفرع به ، وإما من طريق أمارة تدل عليه ، وزاد شارح اللمع وجها سابعا ، وهو البيان بالترك كما روي " أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار " .  
قال الأستاذ  أبو منصور     : رتب بعض أصحابنا ذلك فقال : أعلاها رتبة ما وقع من الدلالة بالخطاب ، ثم بالفعل ، ثم بالإشارة ، ثم بالكتابة ، ثم بالتنبيه على العلة .  
قال : ويقع بيان من الله سبحانه وتعالى بها كلها خلا الإشارة ، انتهى .  
قال  الزركشي     : لا خلاف أن البيان يجوز بالقول ، واختلفوا في وقوعه بالفعل ، والجمهور على أنه يقع بيانا ، خلافا   لأبي إسحاق المروزي  منا ،  والكرخي  من الحنفية ، حكاه الشيخ  أبو إسحاق  في التبصرة ، انتهى .  
ولا وجه لهذا الخلاف ، فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بين الصلاة والحج بأفعاله ، وقال  صلوا كما رأيتموني أصلي  حجوا كما رأيتموني . . . .      [ ص: 504 ] أحج  و  خذوا عني مناسككم  ولم يكن لمن منع من ذلك متمسك ، لا من شرع ولا من عقل ، بل مجرد مجادلات ليست من الأدلة في شيء .  
وإذا ورد بعد المجمل قول وفعل ، وكل واحد منهما صالح لبيانه ، فإن اتفقا وعلم سبق أحدهما فهو البيان ، قولا كان أو فعلا ، والتالي تأكيد له .  
وقيل : إن المتأخر إن كان الفعل لم يحمل على التأكيد ; لأن الأضعف لا يؤكد الأقوى ، وإن جهل المتقدم منهما فلا يقضى على واحد منهما بأنه المبين بعينه ، بل يقضى بحصول البيان بواحد منهما لم نطلع عليه ، وهو الأول في نفس الأمر .  
وقيل : يكونان بمجموعهما بيانا ، قيل : هذا إذا تساويا في القوة ، فإن اختلفا فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم ورودا ، وإلا لزم التأكيد بالأضعف ، هذا إذا اتفق القول والفعل .  
أما إذا اختلفا ; فذهب الجمهور أن المبين هو القول ، ورجح هذا   فخر الدين الرازي  وابن الحاجب  ، سواء كان متقدما أو متأخرا ، ويحمل الفعل على الندب ; لأن دلالة القول على البيان بنفسه ، بخلاف الفعل ، فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه ، والدال بنفسه أولى .  
وقال  أبو الحسين البصري     : المتقدم منهما هو البيان ، كما في صورة اتفاقهما .  
				
						
						
