[ ص: 505 ] الفصل السادس  
في  تأخير البيان عن وقت الحاجة   
اعلم أن كل ما يحتاج إلى البيان ، من مجمل ، وعام ، ومجاز ، ومشترك وفعل متردد ، ومطلق ، إذا تأخر بيانه فذلك على وجهين :  
الأول : أن يتأخر عن وقت الحاجة ، وهو الوقت الذي إذا تأخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة لما تضمنه الخطاب ، وذلك في الواجبات الفورية لم يجز ; لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع عند جميع القائلين بالمنع من تكليف ما لا يطاق .  
وأما من جوز التكليف بما لا يطاق ; فهو يقول بجوازه فقط ، لا بوقوعه ، فكان عدم الوقوع متفقا عليه بين الطائفتين ، ولهذا نقل   أبو بكر الباقلاني  إجماع أرباب الشرائع على امتناعه .  
قال  ابن السمعاني  لا خلاف في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ، ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل ; لأن المكلف قد يؤخر النظر ، وقد يخطئ إذا نظر ( فهذان الضربان ) لا خلاف فيهما . انتهى .  
الوجه الثاني : تأخيره عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل ، وذلك في الواجبات التي ليست بفورية ، حيث يكون الخطاب لا ظاهر له ، كالأسماء المتواطئة ، والمشتركة ، أوله ظاهر ، وقد استعمل في خلافه ، كتأخير التخصيص ، والنسخ ، ونحو ذلك .  
وفي ذلك مذاهب :  
( الأول ) : الجواز مطلقا ، قال  ابن برهان     : وعليه عامة علمائنا ، من الفقهاء والمتكلمين ، ونقله   ابن فورك  ،  والقاضي أبو الطيب  ،   والشيخ أبو إسحاق الشيرازي  ،  وابن السمعاني  ، عن  ابن سريج  والإصطخري  ،   وابن أبي هريرة  ،   وابن خيران  ،  والقفال  ،  وابن القطان  ،   والطبري  ،   والشيخ أبي الحسن الأشعري  ،  والقاضي أبي بكر   [ ص: 506 ] الباقلاني  ، ونقله القاضي في مختصر التقريب عن   الشافعي  ، واختاره  الرازي  في المحصول ،  وابن الحاجب  ، وقال  الباجي     : عليه أكثر أصحابنا ، وحكاه القاضي عن  مالك     .  
واستدلوا بقوله سبحانه :  فإذا قرأناه فاتبع قرآنه   ثم إن علينا بيانه   وثم للتعقيب مع التراخي ، وقوله في قصة  نوح      : وأهلك وعمومه تناول ابنه ، وبقوله تعالى :  إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم   ثم لما سأل  ابن الزبعرى  عن  عيسى  والملائكة نزل قوله تعالى :  إن الذين سبقت لهم منا الحسنى   الآية وبقوله تعالى :  فأن لله خمسه   لم يبين بعد ذلك أن السلب للقاتل وبقوله تعالى :  أقيموا الصلاة   ثم وقع بيانها بعد ذلك بصلاة  جبريل   وبصلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبقوله تعالى :  وآتوا الزكاة   وبقوله تعالى :  والسارق والسارقة فاقطعوا   وبقوله تعالى :  ولله على الناس حج البيت   ثم وقع البيان لهذه الأمور بعد ذلك بالسنة ، ونحو هذا كثير جدا .  
( المذهب الثاني ) : المنع مطلقا ، ونقله   القاضي أبو بكر الباقلاني  ،  والشيخ أبو إسحاق   [ ص: 507 ] الشيرازي  ،   وسليم الرازي  ،  وابن السمعاني  ، عن   أبي إسحاق المروزي  ،  وأبي بكر الصيرفي  ،  وأبي حامد المروزي  ، ونقله  الأستاذ أبو إسحاق  ، عن  أبي بكر الدقاق     .  
قال القاضي : وهو قول المعتزلة وكثير من الحنفية ،  وابن داود الظاهري  ونقله  ابن القشيري  عن   داود الظاهري  ، ونقله  المازري  والباجي  عن  الأبهري     .  
قال القاضي  عبد الوهاب     : قالت المعتزلة والحنفية لا بد أن يكون الخطاب متصلا بالبيان ، أو في حكم المتصل ، احترازا من انقطاعه بعطاس ونحوه من عطف الكلام بعضه على بعض .  
قال : ووافقهم بعض المالكية والشافعية .  
واستدل هؤلاء بما لا يسمن ولا يغني من جوع ، فقالوا : لو جاز ذلك فإما أن يكون إلى مدة معينة ، أو إلى الأبد ، وكلاهما باطل ، أما إلى مدة معينة ; فلكونه تحكما ، ولكونه لم يقل به أحد ، وأما إلى الأبد ; فلكونه يلزم المحذور ، وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم .  
وأجيب عنهم : باختيار جوازه إلى مدة معينة عند الله ، وهو الوقت الذي يعلم أنه يكلف به فيه ، فلا تحكم .  
هذا أنهض ما استدلوا به على ضعفه ، وقد استدلوا بما هو دونه في الضعف ، فلا حاجة لنا إلى تطويل البحث بما لا طائل تحته .  
( المذهب الثالث ) : أنه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره حكاه   القاضي أبو الطيب   والقاضي عبد الوهاب  ،  وابن الصباغ  عن  الصيرفي  وأبي حامد المروزي     . قال   أبو الحسين بن القطان  لا خلاف بين أصحابنا في جواز تأخير بيان المجمل ; كقوله تعالى :  أقيموا الصلاة   وكذا لا يختلفون أن البيان في الخطاب العام يقع بفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والفعل يتأخر عن القول ; لأن بيانه بالقول أسرع منه بالفعل .  
وأما العموم الذي يعقل مراده من ظاهره كقوله :  والسارق والسارقة فاقطعوا   فقد اختلفوا فيه ; فمنهم من لم يجوز تأخير بيانه ، كما هو مذهب      [ ص: 508 ]  أبي بكر الصيرفي  ، وكذا حكى اتفاق أصحاب   الشافعي  على جواز تأخير بيان المجمل   ابن فورك   ، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني  ، ولم يأتوا بما يدل على عدم جواز التأخير فيما عدا ذلك إلا ما لا يعتد به ولا يلتفت إليه .  
( المذهب الرابع ) : أنه يجوز تأخير بيان العموم ; لأنه قبل البيان مفهوم ، ولا يجوز تأخير بيان المجمل ; لأنه قبل البيان غير مفهوم ، حكاه  الماوردي   والروياني  وجها لأصحاب   الشافعي  ، ونقله  ابن برهان  في الوجيز عن  عبد الجبار  ولا وجه له .  
( المذهب الخامس ) : أنه يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي ، ولا يجوز تأخير بيان الأخبار ، كالوعد والوعيد ، حكاه  الماوردي  عن  الكرخي  وبعض المعتزلة ، ولا وجه له أيضا .  
( المذهب السادس ) : عكسه ، حكاه الشيخ  أبو إسحاق  مذهبا ، ولم ينسبه إلى أحد ، ولا وجه له أيضا ، ونازع بعضهم في حكاية هذا وما قبله مذهبا ، قال : لأن موضوع المسألة الخطاب التكليفي ، فلا تذكر فيها الأخبار .  
قال  الزركشي  وفيه نظر .  
( المذهب السابع ) : أنه يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره ، ذكر هذا المذهب  أبو الحسين  في المعتمد ،  وأبو علي  ،  وأبو هاشم  ،  وعبد الجبار  ، ولا وجه له أيضا ; لعدم الدليل الدال على عدم جواز التأخير فيما عدا النسخ ، وقد عرفت قيام الأدلة المتكثرة على الجواز مطلقا ، فالاقتصار على بعض ما دلت عليه دون بعض بلا مخصص باطل .  
( المذهب الثامن ) : التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك ، دون ما له ظاهر كالعام ، والمطلق ، والمنسوخ ، ونحو ذلك ، فإنه لا يجوز التأخير في الأول ، ويجوز في الثاني ، نقله   فخر الدين الرازي  ، عن  أبي الحسين البصري  ،  والدقاق  ،  والقفال  ،  وأبي إسحاق  ، وقد سبق النقل عن هؤلاء بأنهم يذهبون إلى خلاف ما حكاه عنهم ، ولا وجه لهذا التفصيل .  
( المذهب التاسع ) : أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا ولا تغييرا ، جاز مقارنا وطارئا وإن كان تغييرا جاز مقارنا ، ولا يجوز طارئا بحال . نقله  ابن السمعاني  عن      [ ص: 509 ] أبي زيد  من الحنفية ، ولا وجه له أيضا .  
فهذه جملة المذاهب المروية في هذه المسألة ، وأنت إذا تتبعت موارد هذه الشريعة المطهرة ، وجدتها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاء ظاهرا واضحا ، لا ينكره من له أدنى خبرة بها ، وممارسة لها ، وليس على هذه المذاهب المخالفة لما قاله المجوزون أثارة من علم .  
وقد اختلف القائلون بجواز التأخير في جواز تأخير البيان على التدريج ، بأن يبين بيانا أولا ، ثم يبين بيانا ثانيا ، كالتخصيص بعد التخصيص ، والحق الجواز ; لعدم المانع من ذلك لا من شرع ، ولا عقل فالكل بيان .  
				
						
						
