الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي السنة الخامسة والثلاثين : خرج جماعة من أهل مصر إلى عثمان يشكون ابن أبي سرح ويتكلمون منه ، فكتب إليه عثمان كتابا وهدده فيه فأبى ابن أبي السرح أن يقبل من عثمان ، وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان متظلما ، وقتل رجلا من المتظلمة ، فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل فيهم أربعة من الرؤساء : عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وكنانة بن بشر بن عتاب الكندي ، وسودان بن حمران المرادي ، فساروا حتى قدموا المدينة ونزلوا مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وشكوا إلى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن أبي سرح ، فقام طلحة بن عبيد الله إلى عثمان بن عفان وكلمه الكلام الشديد ، وأرسلت إليه عائشة : قدم عليك أصحاب محمد وسألوك [ ص: 257 ] عزل هذا الرجل فأبيت ذلك بواحدة ، وهذا قد قتل منهم رجلا ، فأنصفهم من عاملك ، وكان عثمان يحب قومه ، ثم دخل عليه علي بن أبي طالب فقال : سألوك رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما ، فاعزله عنهم ، واقض بينهم ، فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه ،  فقال لهم عثمان : اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه ، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر ، فقالوا لعثمان : استعمل علينا محمد بن أبي بكر ، فكتب عهده وولاه مصر ، فخرج محمد بن أبي بكر واليا على مصر بعهده ، ومعه عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وبين ابن أبي سرح ، فلما بلغوا مسيرة ثلاث ليال من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير له يخبط البعير خبطا كأنه رجل يطلب أو يطلب ، فقالوا له : ما قصتك ؟ وما شأنك ، كأنك هارب أو طالب ؟ قال : أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر . قالوا : هذا عامله معنا . قال : ليس هذا أريد ، ومضى ، فأخبر محمد بن أبي بكر بأمره ، فبعث في طلبه أقواما ، فردوه ، فلما جاؤوا به ، قال له محمد : غلام من أنت ؟ فأقبل مرة يقول : أنا غلام أمير المؤمنين ، ومرة يقول : أنا غلام مروان ، فعرفه رجل منهم أنه لعثمان ، فقال له محمد بن أبي بكر : لمن أرسلت ؟ قال : إلى عامل مصر . قال : بماذا ؟ قال : برسالة . قال : أمعك كتاب ؟ قال : [ ص: 258 ] لا ، ففتشوه ، فلم يجدوا معه كتابا ، وكان معه إداوة قد يبست ، وفيها شيء يتقلقل ، فحركوه ليخرج ، فلم يخرج فشقوا الإداوة ، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح ، فجمع محمد بن أبي بكر من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، ثم فك الكتاب بحضرتهم ، فإذا فيه : إذا أتاك محمد بن أبي بكر ، وفلان وفلان فاحتل لقتلهم ، وأبطل كتابه ، وقر على عملك ، واحبس من يجيء إلي يتظلم منك حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله . فلما قرؤوا الكتاب فزعوا وأزمعوا ورجعوا إلى المدينة وختم محمد بن أبي بكر الكتاب بخواتم جماعة من المهاجرين معه ، ودفع الكتاب إلى رجل منهم ، وانصرفوا إلى المدينة ، فلما قدموها جمع محمد بن أبي بكر عليا وطلحة والزبير وسعدا ، ومن كان بها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم فك الكتاب بحضرتهم عليه خواتم من معه من المهاجرين ، وأخبرهم بقصة الغلام ، فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان ، وقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد إلا هو مغتم ، وكانت هذيل وبنو زهرة في قلوبها ما فيها على عثمان لحال ابن مسعود .

وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان لحال عمار بن ياسر ، وكانت بنو غفار وأحلافها [ ص: 259 ] ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها ، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر من بني تيم ، وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله وعائشة ، فلما رأى ذلك علي ، وصح عنده الكتاب ; بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم بدريون ، ثم جاء معهم حتى دخل على عثمان ، ومعه الكتاب والغلام والبعير ، فقال له : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم . قال : والبعير بعيرك ؟ قال : نعم . قال : فأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا ، وحلف بالله أنه ما كتب هذا الكتاب ولا أمر به ، فقال له علي : فالخاتم خاتمك ؟ قال : نعم . قال علي : فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلم به ؟ ! فحلف عثمان بالله : ما كتبت هذا الكتاب ، ولا أمرت به ، ولا وجهت هذا الغلام قط إلى مصر ، وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان ، فلما شكوا في أمر عثمان سألوه أن يدفع إليهم مروان ، فأبى ، وكان مروان عنده في الدار ، وكان خشي عليه القتل ، فخرج من عنده علي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلموا أن عثمان لا يحلف باطلا ، ثم قالوا : لا نسكت إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحث ونتعرف منه ذلك الكتاب ، وكيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير حق ! فإن يك عثمان كتب ذلك عزلناه ، وإن يك مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا [ ص: 260 ] ما يكون في أمر مروان ، ولزموا بيوتهم ، وفشا الخبر في المسلمين من أمر الكتاب ، وفقد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنعثمان ، وخرج من الكوفة عدي بن حاتم الطائي والأشتر مالك بن الحارث النخعي في مائتي رجل ، وخرج من البصرة حكيم بن جبلة العبدي في مائة رجل حتى قدموا المدينة يريدون خلع عثمان ، وحوصر عثمان قبل هلال ذي القعدة بليلة ، وضيق عليه المصريون والبصريون وأهل الكوفة بكل حيلة ، ولم يدعوه يخرج ولا يدخل إليه أحد إلا أن يأتيه المؤذن ، فيقول : الصلاة ، وقد منعوا المؤذن أن يقول : يا أمير المؤمنين ، فكان إذا جاء وقت الصلاة بعث أبا هريرة يصلي بالناس ، وربما أمر ابن عباس بذلك ، فصعد يوما عثمان على السطح ، فسمع بعض الناس يقول : ابتغوا إلى قتله سبيلا . فقال : والله ما أحل الله ولا رسوله قتلي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس .

وما فعلت من ذلك شيئا . ثم قال : لا أخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بإراقة محجمة دم حتى ألقاه ، يا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 261 ] أحبكم إلي من كف عنا لسانه وسلاحه ، ثم أشرف عليهم ، فقال : أفيكم علي ؟ قالوا : لا . قال : أفيكم سعد ؟ قالوا : لا ، فقال : أذكركم بالله ، هل تعلمون أن رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بشيء ، فابتعتها من مالي ، وجعلتها للغني والفقير وابن السبيل ؟ فقالوا : نعم . قال : فاسقوني منها ، ثم قال : ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء ؟ فبلغ ذلك عليا ، فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ، فما كادت تصل إليه حتى خرج في سببها عدة من بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه ، ثم قال عثمان : والله لو كنت في أقصى داري ما طلبوا غيري ، ولو كنت أدناهم ما جازوني إلى غيري ، سنجتمع نحن وهم عند الله ، وسترون بعدي أمورا تتمنون أني عشت فيهم ، ضعف أمري ، والله ! ما أرغب في إمارتهم ، ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي : إذا ألبسك الله قميصا ، وأرادوك على خلعه فلا تخلعه ، لحبست في بيتي وتركتكم وإمارتكم ، ووالله لو فعلت ما تركوني ، وإنهم قد خدعوا وغروا ، والله لو أقتل لمت ، لقد كبر سني ورق عظمي ، وجاوزت أسنان أهل بيتي وهم على هذا لا يريدون تركي ، اللهم فشتت [ ص: 262 ] أمرهم ، وخالف بين كلمتهم ، وانتقم لي منهم ، واطلبهم لي طلبا حثيثا ، وقد استجيب دعاؤه في كل ذلك .

ثم أمر عثمان بن عفان عبد الله بن عباس على الحج ، فحج بالناس فأمره وبعث إلى الأشتر فدعاه ، فقال : يا أشتر ، ما يريد الناس ؟ قال : ثلاث ليس من إحداهن بد : إما أن تخلع أمرهم وتقول هذا أمركم فاختاروا له من شئتم ، وإما أن تقص من نفسك ، فإن أبيتهما ، فالقوم قاتلوك . قال عثمان : أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله ، والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أخلع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعضها على بعض ، وأما أن أقص من نفسي ، فوالله لقد علمتم أني لم آت شيئا يجب علي القصاص فيه ، وأما أن تقتلوني فوالله إن تقتلوني لا تتحابون بعدي ، ولا تقاتلون بعدي عدوا جميعا ، ولتختلفن حتى تصيروا هكذا ، ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح . الآية . ثم أرسل إلى [ ص: 263 ] عبد الله بن سلام ، فجاءه ، فقال : الكف ! الكف ! ثم جاءه زيد بن ثابت ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذه الأنصار بالباب ، فقال عثمان : إن شاؤوا أن يكونوا أنصار الله منكم ، وإلا فلا . ثم جاءه عبد الله بن الزبير فقال : يا أمير المؤمنين ، اخرج ، فقاتلهم ، فإن معك من قد نصر الله بأقل منهم ، فلم يعرج على قول ابن الزبير ، ثم قال : ائتوني برجل منهم أقرأ عليه كتاب الله ، فأتوه بصعصعة بن صوحان وكان شابا ، فقال : ما وجدتم أحدا تأتوني به غير هذا الشاب ، فتكلم صعصعة بكلام ، فقال عثمان : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير .

فلما اشتد بعثمان الأمر أصبح صائما يوم الجمعة ، وقال : إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال لي : يا عثمان ، إنك تفطر عندنا الليلة ، ثم قال علي للحسن والحسين : اذهبا بسيفكما حتى تقفا على باب عثمان ، ولا تدعا أحدا يصل إليه ، وبعث الزبير ابنه ، وبعث طلحة ابنه ، وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان ، ورماه الناس بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء ، وتخضب محمد بن [ ص: 264 ] طلحة ، وشج قنبر مولى علي ، ثم أخذ محمد بن أبي بكر بيد جماعة ، وتسور الحائط من غير أن يعلم به أحد من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان وهو قاعد والمصحف في حجره ، ومعه امرأته ، والناس فوق السطح لا يعلم أحد بدخولهم ، فقال عثمان لمحمد بن أبي بكر : والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني ، فرجع محمد ، وتقدم إليه سودان بن رومان المرادي ومعه مشقص ، فوجأه حتى قتله وهو صائم ، ثم خرجوا هاربين من حيث دخلوا ، وذلك يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجة ، وكان تمام حصاره خمسة وأربعين يوما ، وكانت امرأته تقول : إن شئتم قتلتموه ، وإن شئتم تركتموه ، فإنه كان يختم القرآن كل ليلة في ركعة ، ثم صعدت إلى الناس تخبرهم ، وهمر الناس عليه ، فدخلوا ، وأول من دخل عليه الحسن والحسين فزعين ، وهما لا يعلمان بالكائنة ، وكانا مشغولين على الباب ينصرانه ويمنعان الناس عنه ، فلما دخلوا وجدوا عثمان مذبوحا ، فانكبوا عليه يبكون ، ودخل الناس فوجا فوجا ، [ ص: 265 ] وبلغ الخبر علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعدا ، فخرجوا مذهلين كادت عقولهم تذهب لعظم الخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان ، فوجدوه مقتولا ، واسترجعوا . وقال علي لابنيه : كيف قتل أمير المؤمنين ، وأنتما على الباب ؟ ! قالا : لم نعلم . قال : فرفع يده ولطم الحسن ، وضرب صدر الحسين ، وشتم محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير ، ثم خرج وهو غضبان يسترجع ، فلقيه طلحة بن عبيد الله ، فقال : ما لك يا أبا الحسن ؟ فقال علي : يقتل أمير المؤمنين رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من غير أن تقوم عليه بينة ولا حجة ، فقال له طلحة : لو دفعه مروان إليهم لم يقتلوه ، فقال علي : لو خرج مروان إليكم لقتلتموه قبل أن يثبت عليه حكومة ، ثم أتى علي منزله يسترجع ، فاشتغل الناس بعضهم ببعض ، وفزعوا ، ولم يتوهموا بأن هذه الكائنة تكون ، ثم حمل على سريره بين المغرب والعشاء ، وصلى عليه جبير بن مطعم ، ودلته في قبره نائلة بنت الفرافصة وأم البنين بنت عيينة بن حصن بن بدر الفزاري ، ودفن ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة ، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما .

وقتل يوم قتل عثمان من قريش عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن العوام ، والمغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي ، [ ص: 266 ] وقتل معهم غلام لعثمان أسود ، أربعة أنفس .

وكان عمال عثمان حين قتل : على البصرة : عبد الله بن عامر بن كريز ، وعلى الكوفة : سعد بن أبي وقاص ، وعلى الشام : معاوية بن أبي سفيان ، وعلى مصر : محمد بن أبي حذيفة ، وعلى مكة : عبد الله بن الحضرمي ، وعلى الطائف : القاسم بن ربيعة الثقفي ، وعلى صنعاء : يعلى بن منبه ، وعلى الجند : عبد الله بن أبي ربيعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية