الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبعث العمال على الأمصار : فبعث عثمان بن حنيف على البصرة أميرا ، وعمارة بن حسان بن شهاب على الكوفة ، وعبيد الله بن عباس على اليمن ، وقيس بن سعد على مصر ، وسهل بن حنيف على الشام ، فأما سهل بن حنيف فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيه خيل من أهل الشام فقالوا له : من أنت ؟ قال : أمير . قالوا : على أي شيء ؟ قال : على الشام . قالوا : إن كان عثمان بعثك فحي هلا بك ، وإن كان بعثك غيره فارجع ، قال : ما سمعتم بالذي كان ؟ قالوا : بلى ، ولكن ارجع إلى بلدك ، فرجع إلى علي وإذا القوم أصحاب .

وأما قيس بن سعد ; فإنه انتهى إلى أيلة فلقيه طلائع فقالوا له : من أنت ؟ فقال : أنا من الأصحاب الذين قتلوا وشردوا من البلاد ، فأنا أطلب مدينة آوي إليها ، فقالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا قيس بن سعد بن عبادة ، فقالوا : امض بنا ، فمضى قيس حتى دخل مصر وأظهر لهم حاله ، وأخبرهم أنه ولي على مصر فافترق عليه أهل مصر فرقا : فرقة [ ص: 274 ] دخلت في الجماعة وبايعت ، وفرقة أمسكت واعتزلت ، وفرقة قالت : إن قيد من قتلة عثمان فنحن معه وإلا فلا ، فكتب قيس بن سعد بجميع ما رأى من أهل مصر إلى علي .

وأما عبيد الله بن عباس فإنه خرج منطلقا إلى اليمن ، لم يعانده أحد ولم يصده عنها صاد حتى دخلها ، فضبطها لعلي .

وأما عمارة بن حسان بن شهاب فإنه أقبل عامدا إلى الكوفة ، حتى إذا كان بزبالة لقيه طليحة بن خويلد الأسدي وهو خارج إلى المدينة يطلب دم عثمان ، فقال طليحة : من أنت ؟ قال : أنا عمارة بن حسان بن شهاب ، قال : ما جاء بك ؟ قال : بعثت إلى الكوفة أميرا ، قال : ومن بعثك ؟ قال : أمير المؤمنين علي ، قال : الحق بطيتك ، فإن القوم لا يريدون بأميرهم أبي موسى الأشعري بدلا ، فرجع عمارة إلى علي وأخبره الخبر ، وأقام طليحة بزبالة .

وأما عثمان بن حنيف ; فإنه مضى يريد البصرة وعليها عبد الله بن عامر بن كريز ، وبلغ أهل البصرة قتل عثمان ، فقام ابن عامر فصعد المنبر وخطب وقال : إن خليفتكم قتل مظلوما ، وبيعته في أعناقكم ، ونصرته ميتا كنصرته حيا ، واليوم ما كان أمس ، وقد بايع الناس عليا ، ونحن طالبون بدم عثمان ، فأعدوا للحرب عدتها ، فقال له حارثة بن قدامة : يا ابن عامر إنك لم تملكنا عنوة ، وقد قتل عثمان بحضرة المهاجرين والأنصار ، وبايع الناس عليا ، فإن أقرك أطعناك ، وإن عزلك عصيناك ، فقال ابن عامر : موعدك الصبح ، فلما أمسى تهيأ للخروج ، وهيأ مراكبه [ ص: 275 ] وما يحتاج إليه ، واتخذ الليل جملا يريد المدينة ، واستخلف عبد الله بن عامر الحضرمي على البصرة ، فأصبح الناس يتشاورون في ابن عامر وأخبروا بخروجه ، فلما قدم ابن عامر المدينة أتى طلحة والزبير فقالا له : لا مرحبا بك ولا أهلا ، تركت العراق والأموال ، وأتيت المدينة خوفا من علي ، ووليتها غيرك ، واتخذت الليل جملا ، فهلا أقمت حتى يكون لك بالعراق فئة ، قال ابن عامر : فأما إذا قلتما هذا فلكما علي مائة ألف سيف وما أردتما من المال .

ثم أتت أم كلثوم بنت علي أباها ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فقالت له : إن عبد الله بن عمر رجل صالح ، وأنا أتكفل ما يجيء منه لك ، فلما كان من قدوم ابن عامر المدينة ، جاء ابن عمر إليها فقال : يا أماه ، إنك قد كفلت في ، وأنا أريد الخروج إلى العمرة الساعة ، ولست بداخل في شيء يكرهه أبوك ، غير أني ممسك حتى يجتمع الناس ، فإن شئت فأذني ، وإن شئت فابعثيني إلى أبيك ، قالت : لا بل اذهب في حفظ الله وتحت كنفه ، فانطلق ابن عمر معتمرا .

فلما أصبح الناس أتوا عليا فقالوا : قد حدث البارحة حدث هو أشد من طلحة والزبير ومعاوية ، قال علي : وما ذاك ؟ قالوا : خرج ابن عمر إلى الشام ، فأتى علي السوق ، وجعل يعد طلابا ليرد ابن عمر ، فسمعت [ ص: 276 ] أم كلثوم بذلك ، فركبت بغلتها حتى أتت أباها ، فقالت : إن الأمر على غير ما بلغك ، وحدثته بما ذكر لها ابن عمر ، فطابت نفس علي بذلك ، فما انصرفوا من السوق حتى جاءهم بعض القدام من العمرة وأخبروه أنهم رأوا ابن عمر وآخر معه على حمارين محرمين بكساءين .

ثم كتب علي إلى معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإنه قد بلغك ما كان من مصاب عثمان ، وما اجتمع الناس عليه من بيعتي فادخل في السلام كما دخل الناس ، وإلا فأذن بحرب كما يؤذن أهل الفرقة والسلام . وبعث كتابه مع سبرة الجهني والربيع بن سبرة ، فلما قدم سبرة بكتاب علي ودفعه إلى معاوية ، جعل يتردد في الجواب مدة ، فلما طال ذلك عليه ، دعا معاوية رجلا من عبس يدعى قبيصة فدفع إليه طومارا مختوما عنوانه : من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، وقال له : إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار وأبرزه ، وأوصاه بما يقول ، وبعثه مع سبرة رسول علي ، فقدما المدينة ، فرفع العبسي الطومار كما أمر معاوية ، فخرج الناس ينظرون إليه ، وعلموا حينئذ أن معاوية معترض معاند ، فلما دخلا على علي ، دفع إليه العبسي الطومار ، ففض عن خاتمه فلم يجد في جوفه شيئا ، فقال لسبرة : ما وراءك ؟ قال : تركت قوما لا يرضون إلا بالقود ، وقد تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان ، [ ص: 277 ] فقال علي : أمني يطلبون دم عثمان ؟

ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على الكوفة : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس الأشعري ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإنه قد بلغك ما كان من مصاب عثمان ، وما اجتمع الناس عليه من بيعتي ، فادخل فيما دخل فيه الناس ، ورغب أهل ملكك في السمع والطاعة ، واكتب إلي بما كان منك ومنهم إن شاء الله ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ، وبعث الكتاب مع معبد الأسلمي ، فلما قدم معبد الكوفة ، دعا أبو موسى الأشعري الناس إلى طاعة علي فأجابوه طائعين ، وكتب إلى علي بن أبي طالب : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله علي أمير المؤمنين من عبد الله بن قيس سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، ودعوت من قبلي المسلمين فسمعوا وأطاعوا ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . ودفع كتابه إلى معبد .

وكانت عائشة خرجت معتمرة ، فلما قضت عمرتها نزلت على باب المسجد واجتمع إليها الناس ، فقالت : أيها الناس ، إن الغوغاء من أهل الأمصار ، وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول بالأمس ظلما ، واستحلوا البلد الحرام ، وسفكوا الدم الحرام ، فقال عبد الله بن عامر : ها أنا ذا أول طالب بدمه ، فكان أول من انتدب لذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية