الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما دخلت السنة السابعة والثلاثون .

كتب معاوية إلى علي بن أبي طالب : أما بعد فإن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى [ ص: 287 ] خلقه ، واختار له من المسلمين أعوانا ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، كان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة بعده وخليفة خليفته والخليفة المظلوم المقتول رحمة الله عليهم ، وقد ذكر لي أنك تنتفي من دمه فإن كنت صادقا فأمكنا ممن قتله حتى نقتله به ، ونحن أسرع إليك إجابة وأطوعهم طاعة ، وإلا فإنه ليس لك ولا لأحد من أصحابك عندنا إلا السيف ، والذي لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال حتى يقتلهم الله أو تلحق أرواحنا بعثمان والسلام .

فكتب إليه علي : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك يذكر فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وما أنعم الله عليه من الهدى ، والحمد لله على ذلك ، وأما ما ذكرت من ذكر الخلفاء فلعمري إن مقامهم في الإسلام كان عظيما ، وإن المصاب بهم لجرح عظيم في الإسلام ، وأما ما ذكرت من قتلة عثمان فإني قد نظرت في هذا الأمر فلم يسعني دفعهم إليك ، وقد كان أبوك أتاني حين ولى الناس أبا بكر فقال لي : يا علي أنت أحق الناس بهذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهات يدك حتى أبايعك ، [ ص: 288 ] فلم أفعل مخافة الفرقة في الإسلام ، فأبوك أعرف بحقي منك ، فإن كنت تعرف من حقي ما كان يعرفه أبوك فقد قصدت رشدك ، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك والسلام .

فلما قرأ معاوية الكتاب تهيأ هو ومن معه على المسير إلى علي ، ثم سار يريد العراق ، وسار علي من العراق ، وصلى الظهر بين القنطرة والجسر ركعتين ، وبعث على مقدمته شريح بن هانئ وزياد بن النضر بن مالك ، أمر أحدهما أن يأخذ على شط دجلة والآخر على شط الفرات ، معهما أكثر من عشرة آلاف نفس ، واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري ، ثم أخذ على طريق الفرات ، وجعل يقول : إذا سمعتموني أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما أقول ، وإذا لم أقل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما الحرب خدعة ، فالتقى علي وأهل الشام بصفين لسبع بقين من المحرم ،  فقام علي خطيبا في الناس فقال : الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض ، وإن أبرم أمرا لم ينقضه الناقضون ، مع أن لله - وله الحمد - لو شاء لم يختلف اثنان من خلقه ، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره ، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله ، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ، وقد ساقتنا وهؤلاء المقادير حتى جمعت بيننا في هذا المكان ، فنحن من ربنا بمنظر ومستمع ، ولو [ ص: 289 ] شاء الله لجعل الانتقام ، وكان منه التغيير حتى يتبين أهل الباطل ويعلم أهل الحق أين مصيره ، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة هي دار القرار ليجزي الذين أساءوا . الآية . ألا إنكم تلقون عدوكم غدا فأطيلوا الليلة القيام ، وأكثروا فيها تلاوة القرآن ، وسلوه النصر ، وعليكم بالجد والحزم وكونوا صادقين ، ثم قعد فوثب الناس إلى سيوفهم يهيئونها ، وإلى رماحهم يثقفونها ، وإلى نبالهم يريشونها ، ثم جعل على مقدمته شريح بن هانئ الحارثي والأشتر ، وعلى الميمنة الأشعث بن قيس ، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس ، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء ، وعلى الساقة زياد بن النضر ، وعلى ميمنة الرجالة سليمان بن صرد الخزاعي .

ثم قام معاوية خطيبا في أهل الشام واجتمع الناس فقال : الحمد لله الذي دنا في علوه وعلا في دنوه وظهر وبطن فارتفع فوق كل منظر أولا وآخرا وظاهرا وباطنا ، يقضي فيفصل ، ويقدر فيغفر ، ويفعل ما يشاء ، وإذا أراد أمرا أمضاه ، وإذا عزم على أمر قضاه ، لا يؤامر أحدا فيما يملك ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، والحمد لله رب العالمين على ما أحببنا وكرهنا ، ثم كانت من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى [ ص: 290 ] هذه الرقعة من الأرض ، ولقت بيننا وبين أهل العراق ، فنحن من الله بمنظر ومستمع ، وقد قال الله : ولو شاء الله ما اقتتلوا . الآية . فانظروا يا أهل الشام ، فإنما تلقون غدا العدو ، فكونوا على إحدى ثلاث خلال : إما قوما تطلبون ما عند الله بقتالكم قوما بغوا عليكم ، وإما قوما تطلبون بدم الخليفة عثمان فإنه خليفتكم وصهر نبيكم ، وإما قوما تدفعون عن نسائكم وذراريكم ، وعليكم بتقوى الله والصبر الجميل ، نسأل الله لنا ولكم النصر ، وأن يفرغ علينا وعليكم الصبر ، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين ، فأجابه أهل الشام : طب نفسا ، نموت معك ونحيا معك ، ثم جعل معاوية أبا الأعور عمرو بن سفيان السلمي على مقدمته ، وحبيب بن مسلمة الفهري على ميمنته ، وبسر بن أرطاة على ميسرته ، ومسلم بن عقبة على رجالة العسكر ، فلما كان الغد اقتتلوا قتالا شديدا ، فحجز بينهم الليل حتى قاتلوا ثلاثة أيام ، فقتل من أصحاب علي بالمبارزة : هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن بديل بن ورقاء ، وعمار بن حنظلة الكندي ، وبشر بن زهير ، ومالك بن كعب العامري ، وطالب بن كلثوم الهمداني ، والمرتفع [ ص: 291 ] ابن وضاح الزبيدي ، وشريح بن طارق البكري ، وأسلم بن يزيد الحارثي ، والحارث بن اللجاج الحكمي ، وعائذ بن كريب الهلالي ، وواصل بن ربيعة الشيباني ، وعائذ بن مسروق الهمداني ، ومسلم بن سعيد الباهلي ، ومحارب بن ضرار المرادي ، وسليمان بن الحارث الجعفي ، وشرحبيل بن يزيد الحضرمي .

وقتل من أصحاب معاوية في المبارزة : شرحبيل بن منصور ، وعبد الرزاق بن خالد العبسي ، وشريح بن الحارث الكلابي ، وصالح بن المغيرة الجمحي ، وحريث بن الصباح الحميري ، والحارث بن وداعة الحميري ، وروق بن الحارث العكي ، والمطاع بن المطلب القيني ، وجلهمة بن هلال الكلبي ، والوضاح بن أزهر السكسكي ، ووازع بن سلامان الغساني ، والمهاجر بن حنظلة الجعفي ، وعبد الله بن جرير العكي ، ومالك بن وديعة القرشي ، سوى من قتل من الفريقين من غير براز .

التالي السابق


الخدمات العلمية