أما قوله تعالى : ( أجيب دعوة الداع إذا دعان    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو   وقالون  عن نافع    " الداعي إذا دعاني " بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون بحذفها ، فالأولى على الوصل والثانية على التخفيف . 
المسألة الثانية : قال  أبو سليمان الخطابي    : الدعاء مصدر من قولك : دعوت الشيء أدعوه دعاء ، ثم أقاموا المصدر مقام الاسم ، تقول : سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتا ، وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم : رجل عدل . وحقيقة الدعاء  استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة . وأقول : اختلف الناس في الدعاء ، فقال بعض الجهال : الدعاء شيء عديم الفائدة ، واحتجوا عليه من وجوه : 
أحدها : أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع ، فلا حاجة إلى الدعاء ، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع ، فلا حاجة أيضا إلى الدعاء . 
وثانيها : أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته ، وإلا لزم إما التسلسل ، وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر ، وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم ، فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان واجب الوقوع ، وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان ممتنع الوقوع ، ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء البتة أثر ، وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا : الأقدار سابقة والأقضية متقدمة ، والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئا منها ، فأي فائدة في الدعاء ، وقال - عليه الصلاة والسلام - قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق  بكذا وكذا عاما   . 
وروي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " جف القلم بما هو كائن   " ، وعنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " أربع قد فرغ منها : العمر والرزق والخلق والخلق   " . 
وثالثها : أنه سبحانه علام الغيوب ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور    ) [ غافر : 19 ] فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء ؟ ولهذا السبب قالوا إن جبريل  عليه السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى   [ ص: 84 ] درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك . 
ورابعها : أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله ، وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه . 
وخامسها : ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى  ، والدعاء ينافي ذلك ؛ لأنه اشتغال بالالتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر . 
وسادسها : أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب . 
وسابعها : روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال رواية عن الله سبحانه وتعالى : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين   " ، قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء . 
وقال الجمهور الأعظم من العقلاء : إن الدعاء أهم مقامات العبودية  ، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل ، أما الدلائل النقلية فكثيرة : 
الأول : أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية  ، أما الأصولية فقوله : ( ويسألونك عن الروح    ) [ الإسراء : 85 ] ( ويسألونك عن الجبال    ) [ طه : 105 ] ( يسألونك عن الساعة    ) [ النازعات : 42 ] ، وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي ( ويسألونك ماذا ينفقون    ) [ البقرة : 219 ] ( يسألونك عن الشهر الحرام    ) [ البقرة : 217 ] ( يسألونك عن الخمر والميسر    ) [ البقرة : 219 ] ( ويسألونك عن اليتامى    ) [ البقرة : 220 ] ( ويسألونك عن المحيض    ) [ البقرة : 222 ] ، وقال أيضا : ( يسألونك عن الأنفال    ) [ الأنفال : 1 ] ( ويسألونك عن ذي القرنين    ) [ الكهف : 83 ] ( ويستنبئونك أحق هو    ) [ يونس : 53 ] ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة    ) [ النساء : 176 ] . 
إذا عرفت هذا ، فنقول : هذه الأسئلة جاءت أجوبتها على ثلاثة أنواع ، فالأغلب فيها أنه تعالى لما حكى السؤال قال لمحمد    : قل ؛ وفي صورة واحدة جاء الجواب بقوله : فقل مع فاء التعقيب ، والسبب فيه أن قوله تعالى : ( ويسألونك عن الجبال    ) [ طه : 105 ] ، سؤال عن قدمها وحدوثها ، وهذه مسألة أصولية فلا جرم قال الله تعالى : ( فقل ينسفها ربي نسفا    ) [ طه : 105 ] كأنه قال يا محمد  أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب ، فإن الشك فيه كفر ثم تقدير الجواب أن النسف ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل فيكون ممكنا في الكل وجواز عدمه يدل على امتناع قدمه ، أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم لم يذكر فيها فاء التعقيب ، أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب    ) ولم يقل فقل إني قريب فتدل على تعظيم حال الدعاء  من وجوه : 
الأول : كأنه سبحانه وتعالى يقول عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء ، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك . 
الثاني : أن قوله : ( وإذا سألك عبادي عني    ) يدل على أن العبد له ، وقوله : ( فإني قريب    ) يدل على أن الرب للعبد . 
وثالثها : لم يقل : فالعبد مني قريب ، بل قال : أنا منه قريب ، وفيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء ، فلا يمكنه القرب من الرب أما الحق سبحانه فهو القادر من أن يقرب بفضله وبرحمته من العبد ، والقرب من الحق إلى العبد لا من العبد إلى الحق ؛ فلهذا قال : ( فإني قريب    ) . 
والرابع : أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولا بغير الله فإنه لا يكون داعيا له ، فإذا فني عن الكل صار مستغرقا في معرفة الأحد الحق ، فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظا لحقه وطالبا لنصيبه ، فلما ارتفعت الوسائط بالكلية ، فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتا إلى غرض نفسه لم يكن قريبا من الله تعالى ، لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله ، فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله ، فكان الدعاء أفضل العبادات . 
 [ ص: 85 ] الحجة الثانية في فضل الدعاء    : قوله تعالى : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم    ) [ غافر : 60 ] . 
الحجة الثالثة : أنه تعالى لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه إذا لم يسأل يغضب فقال : ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون    ) [ الأنعام : 43 ] ، وقال عليه السلام : " لا ينبغي أن يقول أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول : اللهم اغفر لي   " ، وقال عليه السلام : " الدعاء مخ العبادة   " ، وعن  النعمان بن بشير  أنه - عليه السلام - قال : " الدعاء هو العبادة   " ، وقرأ ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم    ) ، فقوله : " الدعاء هو العبادة    " معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة ، كقوله عليه السلام " الحج عرفة   " ، أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم . 
الحجة الرابعة : قوله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية    ) [ الأعراف : 55 ] ، وقال : ( قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم    ) [ الفرقان : 77 ] والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن . 
والجواب عن الشبهة الأولى : أنها متناقضة ، لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء ، وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة ، ثم نقول : كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول  ، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقا بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تتم العبودية ، وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه أم أمر يستأنفه ؟ فقال : بل شيء قد فرغ منه . فقالوا : ففيم العمل إذن ؟ قال : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له "   . فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه - عليه السلام - علقهم بين الأمرين ، فرهبهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد ، فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر ، ولم يترك أحد الأمرين للآخر ، وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه فقال : " كل ميسر لما خلق له    " ، يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوده ، إلا أنك تحب أن تعلم ههنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر ، وكذا القول في باب الكسب والرزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك . 
والجواب عن الشبهة الثانية : إنه ليس المقصود من الدعاء  الإعلام ، بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية . 
وعن الثالثة : أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء    . 
وعن الرابعة : أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضي بما قدره الله وقضاه ، فذلك أعظم المقامات ، وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					