الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( وإن الذين اختلفوا ) فيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : إن الذين اختلفوا قيل : هم الكفار أجمع اختلفوا في القرآن ، والأقرب حمله على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيهما ؛ لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه وحرفوا تأويله ، فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة بهم فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم دون القرآن الذي إذا عرفوه فعلى وجه التبع لصحة كتابهم ، أما قوله : ( بالحق ) فقيل : بالصدق ، وقيل : ببيان الحق ، وأما قوله : ( وإن الذين اختلفوا في الكتاب ) فاعلم أنا وإن قلنا : المراد من الكتاب هو القرآن ، كان اختلافهم فيه أن بعضهم قال : إنه كهانة ، وآخرون قالوا : إنه سحر ، وثالث قال : رجز ، ورابع قال : إنه أساطير الأولين وخامس قال : إنه كلام منقول مختلق .

                                                                                                                                                                                                                                            وإن قلنا : المراد من الكتاب التوراة والإنجيل فالمراد باختلافهم يحتمل وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنهم مختلفون في دلالة التوراة على نبوة المسيح ، فاليهود قالوا : إنها دالة على القدح في عيسى والنصارى قالوا : إنها دالة على نبوته .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن القوم اختلفوا في تأويل الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فذكر كل واحد منهم له تأويلا آخر فاسدا ؛ لأن الشيء إذا لم يكن حقا واجب القبول بل كان متكلفا كان كل أحد يذكر شيئا آخر على خلاف قول صاحبه ، فكان هذا هو الاختلاف [ ص: 30 ]

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ما ذكره أبو مسلم فقال : قوله : ( اختلفوا ) من باب افتعل الذي يكون مكان فعل ، كما يقال : كسب واكتسب ، وعمل واعتمل ، وكتب واكتتب ، وفعل وافتعل ، ويكون معنى قوله : ( الذين اختلفوا في الكتاب ) الذين خلفوا فيه أي توارثوه وصاروا خلفاء فيه ، كقوله : ( فخلف من بعدهم خلف ) [ الأعراف : 169 ] وقوله : ( إن في اختلاف الليل والنهار ) [ يونس : 6 ] أي كل واحد يأتي خلف الآخر ، وقوله : ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر ) [ الفرقان : 62 ] أي كل واحد منهما يخلف الآخر .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي الآية تأويل ثالث ، وهو أن يكون المراد بالكتاب جنس ما أنزل الله ، والمراد بالذين اختلفوا في الكتاب الذين اختلف قولهم في الكتاب ، فقبلوا بعض كتب الله وردوا البعض وهم اليهود والنصارى حيث قبلوا بعض كتب الله وهو التوراة والإنجيل وردوا الباقي وهو القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( لفي شقاق بعيد ) ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن هؤلاء الذين يختلفون في كيفية تحريف التوراة والإنجيل لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : كأنه تعالى يقول لمحمد هؤلاء وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم كالمتفقين على عداوتك وغاية المشاقة لك فلهذا خصهم الله بذلك الوعيد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف واختلفوا في كيفية التحريف فإن كل واحد منهم يكذب صاحبه ويشاقه وينازعه ، وإذا كان كذلك فقد اعترفوا بكذبهم بقولهم فلا يكون قدحهم فيك قادحا فيك البتة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية