الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : إن هذه الآية تقتضي أن لا يكون القصاص مشروعا إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين .

                                                                                                                                                                                                                                            واحتجوا عليه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الألف واللام في قوله : ( الحر ) تفيد العموم فقوله : ( الحر بالحر ) يفيد أن يقتل كل حر بالحر ، فلو كان قتل حر بعبد مشروعا لكان ذلك الحر مقتولا لا بالحر وذلك ينافي إيجاب أن يكون كل حر مقتولا بالحر .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الباء من حروف الجر فيكون متعلقا لا محالة بفعل ، فيكون التقدير : الحر يقتل بالحر ، والمبتدأ لا يكون أعم من الخبر ، بل إما أن يكون مساويا له أو أخص منه ، وعلى التقديرين فهذا يقتضي أن يكون كل حر مقتولا بالحر وذلك ينافي كون حر مقتولا بالعبد .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : وهو أنه تعالى أوجب في أول الآية رعاية المماثلة وهو قوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) فلما ذكر عقيبه قوله : ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) دل ذلك على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة ؛ لأن قوله : ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) خرج مخرج التفسير لقوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) وإيجاب القصاص على الحر [ ص: 44 ] بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في هذا المعنى ، فوجب أن لا يكون مشروعا ، فإن احتج الخصم بقوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) [ المائدة : 45 ] فجوابنا أن الترجيح معنا لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) شرع لمن قبلنا ، والآية التي تمسكنا بها شرع لنا ، ولا شك أن شرعنا أقوى في الدلالة من شرع من قبلنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أن الآية التي تمسكنا بها مشتملة على أحكام النفوس على التفصيل والتخصيص ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام . ثم قال أصحاب هذا القول : مقتضى ظاهر هذه الآية أن لا يقتل العبد إلا بالعبد ، وأن لا تقتل الأنثى إلا بالأنثى ، إلا أنا خالفنا هذا الظاهر لدلالة الاجتماع ، وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية ، وذلك المعنى غير موجود في قتل الحر بالعبد ، فوجب أن يبقى ههنا على ظاهر اللفظ . أما الإجماع فظاهر ، وأما المعنى المستنبط فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه كان أولى ، بخلاف الحر فإنه لما قتل بالحر لا يلزم أن يقتل بالعبد الذي هو دونه ، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر ، فأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن قوله تعالى : ( الحر بالحر ) لا يفيد الحصر البتة ، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام ، واحتجوا عليه بوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله : ( والأنثى بالأنثى ) يقتضي قصاص المرأة الحرة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله : ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) مانعا من ذلك لوقع التناقض .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن قوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) جملة تامة مستقلة بنفسها ، وقوله : ( الحر بالحر ) تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر ، وإذا تقدم ذكر الجملة المستقلة كان تخصيص بعض الجزئيات بالذكر لا يمتنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات ، بل ذلك التخصيص يمكن أن يكون لفوائد سوى نفي الحكم عن سائر الصور . ثم اختلفوا في تلك الفائدة فذكروا فيها وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو الذي عليه الأكثرون أن تلك الفائدة بيان إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية على ما روينا في سبب نزول هذه الآية ؛ أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل ، ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن للقائلين بالقول الأول أن يقولوا : قوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) هذا يمنع من جواز قتل الحر بالعبد ؛ لأن القصاص عبارة عن المساواة ، وقتل الحر بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة ؛ لأنه زائد عليه في الشرف وفي أهلية القضاء والإمامة والشهادة ، فوجب أن لا يكون مشروعا . أقصى ما في الباب أنه ترك العمل بهذا النص في قتل العالم بالجاهل والشريف بالخسيس ، إلا أنه يبقى في غير محل الإجماع على الأصل ، ثم إن سلمنا أن قوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) يوجب قتل الحر بالعبد ، إلا أنا بينا أن قوله : ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) يمنع من جواز قتل الحر بالعبد ؛ هذا خاص وما قبله عام ، والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متصلا بالعام في اللفظ فإنه يكون جاريا مجرى الاستثناء ، ولا شك في وجوب تقديمه على العام .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في بيان فائدة التخصيص : ما نقله محمد بن جرير الطبري عن علي بن أبي طالب والحسن البصري ، أن هذه الصور هي التي يكتفى فيها بالقصاص ، أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعا بين الحر والعبد ، وبين الذكر والأنثى ، فهناك لا يكتفى بالقصاص ، بل لا بد فيه من التراجع ، وقد شرحنا هذا القول في سبب نزول هذه الآية ، إلا أن كثيرا من المحققين زعموا أن هذا النقل لم يصح عن [ ص: 45 ] علي بن أبي طالب ، وهو أيضا ضعيف عند النظر ؛ لأنه قد ثبت أن الجماعة تقتل بالواحد ولا تراجع ، فكذلك يقتل الذكر بالأنثى ولا تراجع ، ولأن القود نهاية ما يجب في القتل فلا يجوز وجوب غيره معه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية