[ ص: 121 ] المسألة الثالثة : اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام    : الإفراد ، والقران ، والتمتع ، فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل ، أو يعتمر قبل أشهر ، ثم يحج في تلك السنة ، والقران أن يحرم بالحج والعمرة معا في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه ، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ، ثم قبل الطواف أدخل عليها الحج يصير قرانا ، والتمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ثم يحج في هذه السنة ، وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل عن العمرة قبل أن يحرم بالحج . 
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في الأفضل من هذه الثلاثة فقال  الشافعي    - رضي الله عنه - أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران ، وقال في اختلاف الحديث : التمتع أفضل من الإفراد ، وبه قال مالك  رضي الله عنه ، وقال  أبو حنيفة    - رضي الله عنه : القران أفضل ، ثم الإفراد ، ثم التمتع ، وهو قول المزني  وأبي إسحاق  والمروزي  من أصحابنا ، وقال أبو يوسف  ومحمد    : القران أفضل ، ثم التمتع ، ثم الإفراد ، حجة  الشافعي    - رضي الله عنه - في أن الإفراد أفضل من وجوه : 
الأول : التمسك بقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله    ) والاستدلال به من ثلاثة أوجه : 
الأول : أن الآية اقتضت عطف العمرة على الحج ، والعطف يستدعي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والمغايرة لا تحصل إلا عند الإفراد ، فأما عند القران فالموجود شيء واحد ، وهو حج وعمرة ، وذلك مانع من صحة العطف . 
الثاني : قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله    ) يقتضي الإفراد ، بدليل أنه تعالى قال : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي    ) والقارن يلزمه هديان عند الحصر ، وأيضا أنه تعالى أوجب على الخلق عند الأداء فدية واحدة ، والقارن يلزمه فديتان عند الحصر . 
الثالث : هذه الآية تدل على وجوب الإتمام ، والإتمام لا يحصل إلا عند الإفراد ويدل عليه وجهان : 
الأول : أن السفر مقصود في الحج ، بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من وطنه ، ولولا أن السفر مقصود في الحج لكان يحج عنه من أدنى المواقيت ، ويدل عليه أيضا أنهم قالوا لو نذر أن يحج ماشيا وحج راكبا يلزمه دم ، فثبت أن السفر مقصود والقران يقتضي تقليل السفر ، لأن بسببه يصير السفران سفرا واحدا ، فثبت أن الإتمام لا يحصل إلا بالإفراد . 
الثاني : أن الحج لا معنى له إلا زيارة بقاع مكرمة ، ومشاهد مشرفة ، والحاج زائر الله ، والله تعالى مزوره ، ولا شك أنه كلما كانت الزيارة والخدمة أكثر كان موقعها عند المخدوم أعظم ، وعند القران تنقلب الزيارتان زيارة واحدة ، بل الحق أن جملة أنواع الطاعات في الحج وفي العمرة تكرر عند الإفراد ، وتصير واحدة عند القران ، فثبت أن الإفراد أقرب إلى التمام ، فكان الإفراد إن لم يكن واجبا عليكم بحكم هذه الآية فلا أقل من كونه أفضل . 
الحجة الثانية : في بيان أن الإفراد أفضل : أن الإفراد يقتضي كونه آتيا بالحج مرة ، ثم بالعمرة بعد ذلك ، فتكون الأعمال الشاقة في الإفراد أكثر فوجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام : " أفضل الأعمال أحمزها   " أي أشقها . 
الحجة الثالثة : أنه - عليه السلام - كان مفردا فوجب أن يكون الإفراد أفضل ، أما قولنا : إنه كان مفردا فاعلم أن الصحابة اختلفت رواياتهم في هذا المعنى ، فروى مسلم  في صحيحه عن  عائشة    - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد بالحج ، وروى جابر   وابن عمر  أنه أفرد ، وأما أنس  فقد روي عنه أنه قال : كنت واقفا عند   [ ص: 122 ] جران ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فكان لعابها يسيل على كتفي ، فسمعته يقول " لبيك بحج وعمرة معا " ، ثم  الشافعي    - رضي الله عنه - رجح رواية  عائشة    - رضي الله عنها - وجابر   وابن عمر  على رواية أنس  من وجوه . 
أحدها : بحال الرواة ، أما  عائشة  فلأنها كانت عالمة ، ومع علمها كانت أشد الناس التصاقا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشد الناس وقوفا على أحواله ، وأما جابر  فإنه كان أقدم صحبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أنس  ، وإن أنسا  كان صغيرا في ذلك الوقت قبل العلم ، وأما ابن عمر  فإنه كان مع فقهه أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيره ، لأن أخته حفصة  كانت زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم . 
والثاني : أن عدم القران متأكد بالاستصحاب . 
والثالث : أن الإفراد يقتضي تكثير العبادة ، والقران يقتضي تقليلها  ، فكان إلحاق الإفراد بالنبي - عليه الصلاة والسلام - أولى ، وإذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا وجب أن يكون الإفراد أفضل ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يختار الأفضل لنفسه ، ولأنه قال : " خذوا عني مناسككم   " أي تعلموا مني . 
الحجة الرابعة : أن الإفراد يقتضي تكثير العبادة ، والقران يقتضي تقليلها ، فكان الأول أولى ، لأن المقصود من خلق الجن والإنس هو العبادة ، وكل ما كان أفضى إلى تكثير العبادة كان أفضل . 
حجة  أبي حنيفة    - رضي الله عنه - من وجوه : 
الحجة الأولى : التمسك بقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله    ) ، وهذا اللفظ يحتمل أن يكون المراد إيجاب كل واحد منهما ، أو يكون المراد منه إيجاب الجمع بينهما على سبيل التمام ، فلو حملناه على الأول لا يفيد الثاني ، ولو حملناه على الثاني أفاد الأول ، فكان الثاني أكثر فائدة ، فوجب حمل اللفظ عليه ، لأن الأولى حمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة . 
الحجة الثانية : أن القران جمع بين النسكين فوجب أن يكون أفضل من الإتيان بنسك واحد . 
الحجة الثالثة : أن في القران مسارعة إلى النسكين ، وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد النسكين فوجب أن يكون القران أفضل لقوله : ( وسارعوا    ) [ آل عمران : 133 ] . 
والجواب عن الأول : أنا بينا أن هذه الآية تدل من ثلاثة أوجه دلالة ما هو أكثر فائدة على الإفراد ، وأما ما ذكرتموه فمجرد حسن ظن ؛ حيث قلتم : حمل اللفظ على ما هو أكثر فائدة أولى وإذا كان كذلك كان الترجيح لقولنا . 
والجواب عن الثاني والثالث : أن كل ما يفعله القارن يفعله المفرد أيضا ، إلا أن القران كان حيلة في إسقاط الطاعة فينتهي الأمر فيه أن يكون مرخصا فيه ، فأما أن يكون أفضل فلا ، وبالجملة  فالشافعي    - رضي الله عنه - لا يقول إن الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة ، لكنه يقول : من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها فمجموع هذين الأمرين أفضل من الإتيان بالحجة المقرونة . 
				
						
						
