الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( كتاب البيوع ) هذا أول النصف الثاني من هذا المختصر ، وقد سبق في أول كتاب النكاح أن طريقة المتأخرين من المالكية أنهم يجعلون النكاح وتوابعه في الربع الثاني والبيع وتوابعه في الربع الثالث ، والمعنى : هذا باب يذكر فيه البيع وأحكامه . وباب البيع مما يتعين الاهتمام بمعرفة أحكامه لعموم الحاجة إليه إذ لا يخلو مكلف غالبا من بيع أو شراء ، فيجب أن يعلم حكم الله في ذلك قبل التلبس به ، وقول بعض الناس : يكفي ربع العبادات ليس بشيء قاله في التوضيح ، وقد تقدم في باب النكاح في كلام صاحب القبس عن القاضي الزنجاني أن البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام العالم ; لأن الله سبحانه خلق الإنسان محتاجا إلى الغذاء ومفتقرا إلى النساء وخلق له ما في الأرض جميعا كما أخبر في كتابه ولم يتركه سدى يتصرف كيف شاء باختياره إلى آخره ، فيجب على كل واحد أن يتعلم منه ما يحتاج إليه ثم يجب على الشخص العمل بما علمه من أحكامه ويجتهد في ذلك ويحترز من إهمال ذلك فيتولى أمر شرائه وبيعه بنفسه إن قدر وإلا فغيره بمشاورته ، ولا يتكل في ذلك على من لا يعرف الأحكام أو يعرفها ويتساهل في العمل بمقتضاها لغلبة الفساد وعمومه في هذا الزمان .

                                                                                                                            قال سيدي أبو عبد الله بن الحاج في المدخل في فضل خروج العالم إلى قضاء حاجته في السوق : ينبغي له بل يجب عليه إذا اضطر إلى قضاء حاجته في السوق أن يباشر ذلك بنفسه ; فإن فعل أتى بالسنة على وجهها وبرئ - من الكبر ، .

                                                                                                                            وإن عاقه عائق استناب من له علم بالأحكام في ذلك وليحذر من هذه العوائد الرديئة التي يفعلها بعض من ينسب إلى العلم ، فتجد بعضهم يبحث في مسائل البيوع في الربويات وغير ذلك في الدرس ويستدل ويجيز ويمنع ويكره ، فإذا قام أرسل إلى السوق من يقضي له الحاجة صبيا صغيرا كان أو كبيرا أو عبدا أو جارية أو غيرهم ممن لا علم له بالأحكام الشرعية ، وفي السوق ما قد علم من جهل أكثر البياعين بالأحكام الشرعية ، ومن الأشياء التي لا يجوز شراؤها ، انتهى . والبيع لغة : مصدر باع الشيء إذا أخرجه عن ملكه بعوض أو أدخله فيه فهو من الأضداد يطلق على البيع والشراء ، قال الله تعالى : { وشروه بثمن بخس } أي باعوه ، وقال : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } .

                                                                                                                            وفي الحديث { لا يبع على بيع أخيه } أي لا يشتر على شرائه ، وقال ابن الأنباري في كتاب الأضداد : قال جماعة من المفسرين [ ص: 222 ] في قوله تعالى { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } معناه باعوا الضلالة بالهدى ، وذكر الزناتي في شرح الرسالة أن لغة قريش استعمال باع إذا أخرج واشترى إذا أدخل ، قال : وهي أفصح ، وعلى ذلك اصطلح العلماء تقريبا للفهم ، وأما شرى فيستعمل بمعنى باع ففرق بين شرى واشترى ، والشراء يمد ويقصر قاله في الصحاح ، والبيعان والمتبايعان : البائع والمشتري يقال لكل واحد منهما بيع وبائع ومشتر كما صرح بذلك القرطبي في شرح مسلم في بيع الخيار ، ونصه : البيعان تثنية بيع ، وهو يقال على البائع والمشتري كما يقال كل واحد منهما على الآخر ، انتهى . وعرف بعضهم البيع لغة بأنه : إعطاء شيء في مقابلة شيء ، أو مقابلة شيء بشيء ، ويقال : باع الشيء يبوعه بوعا إذا قاسه بالباع .

                                                                                                                            وهو قدر مد اليدين قاله في الصحاح ، وهذا واوي العين ، والبيع يائي العين ، وأبعت الشيء عرضته للبيع واستبتعته الشيء أي سألته أن يبيعه مني ، ويقال بايعته من البيع ، ومن البيعة هذا معناه لغة . وأما في الشرع فقال ابن عبد السلام معرفة حقيقته ضرورية حتى للصبيان ، قال ابن عرفة ونحوه للباجي .

                                                                                                                            ( قلت : ) ومال المصنف في التوضيح إلى ما قاله ابن عبد السلام والباجي فقال : إن الأقرب ما قاله ابن عبد السلام إن حقيقة البيع معروفة لكل أحد ، فلا تحتاج إلى حد ولهذا - والله أعلم - لم يعرفه في هذا المختصر ورد ابن عرفة على ابن عبد السلام والباجي فقال : قلت : المعلوم ضرورة وجوده عند وقوعه لكثرة تكرره ، ولا يلزم منه علم حقيقته حسبما تقدم في باب الحج ، انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) ونقل ابن عبد السلام عن بعضهم أنه عرفه بأنه : دفع عوض في معوض ، قال ويدخل تحته الصحيح والفاسد .

                                                                                                                            ورأى بعضهم أن الحقائق الشرعية إنما ينبغي تعريف الصحيح منها لأنه المقصود بالذات ومعرفته تستلزم معرفة الفاسد أو أكثره ، فقال : نقل الملك بعوض ، ويعتقد قائل هذا أن البيع الفاسد لا ينقل الملك ، وإنما ينقل شبهة الملك ، انتهى . ولفظة العوض في التعريفين توجب خللا فيهما ; لأنها لا تعرف إلا بعد معرفة البيع أو ما هو ملزوم للبيع ، انتهى . وذلك لأن العوض هو أحد نوعي المعقود عليه ، فمعرفته متوقفة على معرفة المعقود عليه توقف معرفة النوع على معرفة جنسه ، وكذلك البيع فكل واحد منهما لازم وملزوم ومعرفة أحدهما لازم لمعرفة الآخر ، والمعقود عليه ملزوم للبيع ; لأنه كلما وجد المعقود لزم وجود البيع ; لأنه لا يكون معقودا عليه إلا بعد تقدم عقدين ، فتوقفت معرفة العوض على معرفة البيع أو معرفة ما هو ملزوم للبيع ، وهو المعقود عليه ، والفرض أن معرفة البيع توقفت على معرفة العوض ; لأنه أخذ في حده فجاء الدور والله أعلم .

                                                                                                                            ويأتي الكلام على هذا الإيراد ، وعزا ابن عرفة التعريف الأول لأحد نقلي اللخمي أن البيع التعاقد والتقابض اعترض عليه في تركه التعقب عليها بغير ما ذكر ، والتعريف الثاني للمازري والصقلي وتعقبهما بأن الأول لا يتناول غير بيع المعاطاة ، وأن الثاني لا يتناول شيئا من البيع ; لأن نقل الملك لازم للبيع وأعم منه ; لأنه ينتقل بغيره كالصدقة والهبة ، وكونه بعوض يخصصه بالبيع عن الهبة والصدقة ، ولا يصيره نفس البيع ، قال ويدخل فيه النكاح والإجارة ، وفي تتمات الغرر من المدونة منقال : أبيعك سكنى داري سنة فذلك غلط في اللفظ .

                                                                                                                            وهو كراء صحيح ، قال : وقوله : العوض أخص من البيع يرد بأنه أعم منه لثبوته في النكاح وغيره ، وتقدم لابن بشير النكاح عقد على البضع بعوض ، وقال ابن سيده : العوض البدل ونحوه ، قال الزبيدي : يقال : أصبت منه العوض ، وقسم النحاة التنوين أقساما أحدها تنوين العوض والأصل عدم النقل ، انتهى بالمعنى .

                                                                                                                            ( قلت : ) والتعريف الثاني ذكره ابن رشد في أول كتاب السلم من المقدمات فقال : نقل الملك على عوض ، انتهى . ونقله في التوضيح عن المازري فقط قال عنه : وهو يشمل الصحيح والفاسد بناء على أن الفاسد ينقل الملك [ ص: 223 ]

                                                                                                                            قال : وإن قلنا إنه لا ينقله لم يشمله لكن العرب قد تكون التسمية عندهم صحيحة لاعتقادهم أن الملك قد انتقل عن حكمهم في الجاهلية ، وإن كان لم ينتقل على حكم الإسلام خليل ، وإن أردت إخراجه بوجه لا شك فيه فزد بوجه جائز ، انتهى كلامه .

                                                                                                                            ( قلت : ) اعلم أن العلماء اختلفوا في قوله تعالى : { وأحل الله البيع } هل هو من قبيل العموم الذي لا تخصيص فيه بناء على أن الفاسد لا يطلق عليه أنه بيع إلا على سبيل المجاز ، ومنهم من قال : هو من قبيل العموم الذي يدخله التخصيص فهو على ظاهره إلا ما قام الدليل على خروجه ، وهو مذهب أكثر الفقهاء .

                                                                                                                            وهذا بناء على أن البيع الفاسد يطلق عليه أنه بيع ، ومنهم من قال : هو من قبيل المجمل ; لأنه يقتضي بظاهره إباحة كل بيع ، وقوله بعده : { وحرم الربا } يقتضي تحريم كل بيع فيه تفاضل ولم يبين التفاضل الممنوع من الجائز ، وقيل : إن الإجمال من جهة أنه ثبت في الشرع تحريم بعض البيوع فصارت الآية محتاجة إلى بيان الشروط التي تصح معها ، وإذا كان المقصود من الحقائق الشرعية إنما هو معرفة الصحيح فلا حاجة إلى ما ذكره المازري من الاعتذار عن تسمية الفاسد بيعا عند العرب والله أعلم .

                                                                                                                            ثم ذكر في التوضيح أنه يرد على هذا التعريف أسئلة وأصلها لابن راشد وعنه نقلها الشارح الكبير : الأول أن البيع علة في نقل الملك يقال : انتقل الملك لمشتري الدار ; لأنه ابتاعها ، والعلة مغايرة للمعلول فلا يمكن حد البيع بالنقل . الثاني أن النقل حقيقة في الأجسام مجاز في المعاني ، والمجاز لا يستعمل في الحدود . والثالث أن الملك مجهول ; لأنا إن قلنا هو التصرف انتقض بتصرف الوصي والوكيل ; فإنهما غير مالكين وهما يتصرفان .

                                                                                                                            وقد يوجد الملك ولا تصرف كالمحجور عليه ، وقد يوجدان معا في المالك الرشيد ، وإذا كانت حقيقة الملك مجهولة فيكون قد عرف البيع بما هو أخفى منه ا هـ .

                                                                                                                            ( قلت : ) السؤال الأول قريب من الإيراد الذي ذكره ابن عرفة ، ويجاب عنه بأنه ليس من التعريف بالحد التام أو الناقص ، وإنما هو من التعريف بالرسم الذي يكفي فيه التعريف بلازم الشيء ، وأجاب ابن رشد عنه بأن التعليل لا يقتضي التغاير لوجود ذلك في كل حد مع محدوده تقول : هذا إنسان لأنه حيوان ناطق ، ويجاب عن السؤال الثاني بأن النقل وإن كان مجازا في المعنى فإنما ذلك بحسب اللغة ، وأما عند الفقهاء فالظاهر أنه حقيقة شرعية ، والتعريف إنما هو بحسب العرف الشرعي ، ويجاب عن السؤال الثالث بنحو ما أجيب عن الأول ، وهو أنه لا يحتاج إلى معرفة حقيقة الملك بل يكفي تصوره بوجه ما ، وقد عرف القرافي في الفرق الموفي ثمانين بعد المائة فقال : قاعدة التصرف وقاعدة الملك اعلم أن الملك أشكل على كثير من الفقهاء ضبطه ; فإنه عام يترتب عليه أسباب مختلفة كالبيع والهبة والصدقة والإرث وغير ذلك فهو غيرها ، ولا يمكن أن يقال : هو التصرف ; لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف ثم ذكر نحو ما تقدم عن التوضيح .

                                                                                                                            ثم قال : وهذه حقيقة الأعم من وجه والأخص من وجه يجتمعان في صورة وينفرد كل واحد في صورة ، والعبارة الكاشفة عن حقيقة الملك أنه : حكم شرعي يقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك . أما أنه حكم شرعي فبالإجماع ، ولأنه يتبع الأسباب الشرعية ، وأما أنه مقدر فلأنه يرجع إلى متعلق الإذن الشرعي ، والتعلق أمر عدمي ليس وصفا حقيقيا ، بل يقدر في العين أو المنفعة عند تحقق الأسباب المفيدة في الملك ، وقولنا : في العين أو المنفعة ، فإن الأعيان تملك بالبيع ، والمنافع بالإجارة ، وقولنا : يقتضي انتفاعه بالمملوك ليخرج تصرف الوصي والوكيل والقاضي ، وقولنا : العوض عنه ليخرج الإباحة في الضيافات ; فإنها مأذون فيها وليست مملوكة على الصحيح ولتخرج أيضا [ ص: 224 ] الاختصاصات بالمساجد والربط ومواضع المناسك ومقاعد السوق ; فإنه لا ملك فيها مع التمكن الشرعي من التصرف .

                                                                                                                            وقولنا : من حيث هو كذلك إشارة إلى أنه يقتضي ذلك من حيث هو هو ، وقد يختلف لمانع كالحجر والوقف إذا قلنا إنه على ملك واقفه . ثم قال ذلك الانتفاع دون المنفعة كبيوت المدارس ترجع إلى الإباحة كما في الضيافة فهي مأذون فيها لمن قام بشرط الواقف ، ولا ملك فيها لغيره ، بخلاف الجامكية ; فإن الملك محصل فيها لمن حصل له شرط الواقف ، فلا جرم صح أخذ العوض بها وعنها

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية