وقال شيخنا    : ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة ، فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويا لما على الإنس في الحد والحقيقة ، لكنهم مشاركوهم في جنس التكليف بالأمر ، والنهي ، والتحليل ، والتحريم ، بلا نزاع أعلمه بين العلماء ، فقد يدل ذلك على مناكحتهم وغيرها ، وقد يقتضيه إطلاق أصحابنا . 
وفي المغني وغيره أن الوصية لا تصح لجني لأنه لا يملك بالتمليك كالهبة فيتوجه من انتفاء التمليك منع الوطء ، لأنه في مقابلة مال ، قال الله تعالى { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا    } وقال سبحانه { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها    } وقد ذكر أصحابنا هذا المعنى في شروط الكفاءة ، فهاهنا أولى ، ومنع منه غير واحد من متأخري الحنفية ، وبعض الشافعية ، وجوزه منهم ابن يونس  في شرح الوجيز . 
وفي مسائل حرب باب مناكحة الجن ثم روي عن الحسن   وقتادة  والحكم  وإسحاق  كراهتها ، وروي من رواية  ابن لهيعة  ، عن  يونس  ، عن الزهري    { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن   } وعن زيد العجمي  اللهم ارزقني جنية أتزوج بها تصاحبني حيثما كنت . ولم يذكر حرب  عن  أحمد  شيئا . وفي كتاب الإلهام والوسوسة لأبي عمر سعيد بن العباس الرازي  عن  [ ص: 605 ]  مالك  لا بأس به في الدين ، ولكن أكره إذا وجدت امرأة حاملا فقيل من زوجك قالت : فلان من الجن فيكثر الفساد وعن أبي هريرة  مرفوعا { أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والتي تليها على أضوإ كوكب دري في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان ، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم   } رواه  البخاري   ومسلم  وزاد { وما في الجنة أعزب   } . 
 ولأحمد  عن  أبي هريرة  مرفوعا { للرجل من أهل الجنة زوجتان من حور العين   } وهو  لأحمد  أيضا من حديث  أبي سعيد  لكنه من رواية عطية العوفي  ، وهو ضعيف ، وقد روي من حديث عبد الله  مرفوعا { لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين   } قال الحافظ الضياء  هذا عندي على شرط الصحيح ، وقد روي من حديث  أبي هريرة  مرفوعا في حديث الصور ، وفيه { فيدخل رجل منهم على ثلاث وسبعين زوجة مما ينشئ الله ، وثنتين من ولد آدم    } وهو حديث ضعيف ، فيه رجل مجهول وفيه إسماعيل بن رافع المدني  ضعفه  أحمد  ويحيى  وجماعة ، وتركه  الدارقطني  وغيره . 
وقال ابن عدي    : أحاديثه كلها مما فيه نظر وللترمذي  من رواية دراج أبي السمح  وهو ضعيف عن أبي الهيثم  عن  أبي سعيد  مرفوعا { أدنى أهل الجنة منزلة من له ثمانون ألف خادم ، واثنتان وسبعون زوجة   } ولم أجد في الأخبار ذكر المؤمن من الجن الذكر والأنثى ، وقد احتج على دخولهم الجنة بقوله تعالى { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان    } الآية فإن دخلوها فظاهر الخبر أن الرجل منهم يتزوج كما يتزوج الآدمي ، لكن الآدمي كما يتزوج من الحور العين يتزوج من جنسه ،  [ ص: 606 ] وأما المؤمن من الجن فيتزوج من الحور العين ويتزوج من جنسه على ظاهر الخبر ، لأنه ليس في الجنة أعزب لكن تزويجه بآدمية وتزويج الآدمي بجنية  فيه نظر ، ورأيت من يقول ظاهر الخبر النفي ، ورأيت من يعكس ذلك ، فإن ثبت هذا في الجنة فهل يلزم جوازه في الدنيا ؟ فيه نظر ، ويأتي في آخر المحرمات في النكاح ، وفي حد اللوطي ما يتعلق بذلك ، والله أعلم ، وإن صح نكاح جنية فيتوجه أنها في حقوق الزوجية كالآدمية لظواهر الشرع ، إلا ما خصه الدليل ، وقد ظهر مما سبق أن نكاح الجني للآدمية كنكاح الآدمي للجنية ، وقد يتوجه القول بالمنع هنا ، وإن جاز عكسه لشرف جنس الآدمي ، وفيه نظر ، لمنع كون هذا الشرف له تأثير في منع النكاح . وقد يحتمل عكس هذا الاحتمال ، لأن الجني يتملك فيصح تمليكه للآدمية ، ويحتمل أن يقال ظاهر كلام من لم يذكر عدم صحة الوصية لجني صحة ذلك ، ولا يضر نصه في الهبة لتعتبر الوصية بها ، ولعل هذا أولى ، لأنه إذا صح تمليك المسلم الحربي فمؤمن الجن أولى ، وكافرهم كالحربي ، ولا دليل على المنع ، ويبايع ويشارى ، إن ملك بالتمليك وإلا فلا ، فأما تمليك بعضهم من بعض فمتوجه ، ومعلوم إن صح معاملتهم ومناكحتهم فلا بد من شروط صحة ذلك بطريق قاطع شرعي ، ويقطعه قاطع شرعي ، ويقبل قولهم أن ما بيدهم ملكهم مع إسلامهم ، وكافرهم كالحربي ويجري [ بينهم ] التوارث الشرعي ، وقد عرف مما سبق من كلام ابن حامد  وأبي البقاء  أنه يعتبر لصحة صلاته ما يعتبر لصحة صلاة الآدمي ، وظاهر كلام ابن حامد  أنه في الزكاة كالآدمي ، وإذا ثبت دخولهم في بعض العمومات  [ ص: 607 ] إجماعا كآية الوضوء وآية الصلاة فما الفرق ؟ وما وجه عدم الخصوص ، ولهذا روى  أحمد   ومسلم  عن  ابن مسعود    { أن الجن لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الزاد قال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم فلا تستنجوا بهما ، فإنها طعام إخوانكم   } وأنه في الصوم كالآدمي ، وأنه في الحج كذلك ، وظاهر كلامه وكلام غيره أنه يحرم عليهم ظلم الآدميين ، وظلم بعضهم لبعض ، كما هو ظاهر الأدلة ، وفي حديث  أبي ذر  عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا   } رواه  مسلم    . ومعلوم أن من ظلم وتعدى بمخالفة ما أوجبه الله تعالى فإنه يجب ردعه وزجره حسب الإمكان ، إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين ، وكان شيخنا  إذا أتي بالمصروع وعظ من صرعه ، وأمره ونهاه ، فإن انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود ، وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارقه ، ضربه حتى يفارقه ، والضرب في الظاهر على المصروع ، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه ، ولهذا لم يتألم من صرعه به ويصيح ويخبر المصروع إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء من ذلك . وأظن أني رأيت عن  الإمام أحمد  نحو فعل شيخنا  ، والأثبت عن  أحمد  أنه أرسل إلى مصروع ففارقه ، وأنه عاود بعد موت  أحمد  فذهب  أبو بكر المروذي  بنعل  أحمد  وما قال له ، فلم يفارقه ، لم ينقل أن  المروذي  ضربه ليذهب ، فامتناعه لا يدل على  [ ص: 608 ] عدم جوازه ، فلعله لم يرى المحل قابلا ، أو لم يتمكن من ذلك ، أو الوقت ضيق ، أو لم يعرف فيه سلفا ، فتورع عنه وهابه ، أو لم يستحضر مثل هذا الفعل ، ولا تنبيه عليه ، والله أعلم ، وإذا شرع ردع الظالم والمتعدي منهم عمل بالطريق الشرعي ، قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله قد فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها   } { ولما عرض ذلك الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم بالنار في صلاته قال ألعنك بلعنة الله ، وخنقه   } والخبر مشهور في صحيح  مسلم  ، ومن المعلوم أن كل من دخل في عمومات الشرع عمه كلام المكلف العام ، إلا أن يمنع منه مانع ، لكن الأصل عدمه ، فعل مدعيه الدليل ، وهذا واضح ، وقد احتج  القاضي  في العدة على العموم بأن لفظة ( من ) إذا استعملت في الاستفهام كقوله : من عندك ، ومن كلمت ؟ صح أن يجيب بذكر كل عاقل ، فثبت أن اللفظ يتناول الجميع ، وكذلك إذا استعملت ( من ) في المجازاة كقوله من دخل داري أكرمته صلح أن يستثنى أي عاقل ، فلولا أن اللفظ يتناول الجميع لما صلح استثناؤهم ، لأن الاستثناء يخرج من اللفظ ما لولاه لكان داخلا فيه ، ألا تراه لما لم يتناول غير العقلاء لم يصح استثناؤهم ، فإن قيل : لا نسلم أن صيغة ( من ) لكل من يعقل ، لأن من يعقل من الجن والملائكة لا يدخلون فيه قيل : الصيغة تناولت كل هؤلاء ، وإنما خرج ذلك بدليل ، لأنه إنما سأله عمن يجوز أن يكون عنده ، وعمن يجوز دخوله ، كذا قال ، وتحرير الجواب أن الواحد من هؤلاء لا يخطر ببال السائل والمتكلم ، ولا يتوهمه ، فلا يصح تفسيره به حتى لو كان من يخطر  [ ص: 609 ] بباله لم يخالطهم ، أو كان القائل أحدهم جاز ، وصح ، لعدم المانع ، ومراد  القاضي  لا يخالف هذا ، وكذا  أبو الخطاب  لما قيل له : لو كان الاستثناء لا يخرج إلا ما لولاه لوجب دخوله فيه لحسن أن يقول : من دخل داري ضربته إلا الملائكة والجن ، لأنهم لا يدخلون تحت لفظة ( من ) قيل : قد ذكرنا أنه يصح ، وإذا قلنا ، لا يصح : فالمنع من دخولهم تحت اللفظ هو علمنا أن المتكلم قبل الاستثناء لم يردهم ولا عناهم ، فلم يكن في الاستثناء فائدة ، كذا قال ، ويتوجه أن استثناء المتكلم دليل على أنه عناهم وأرادهم ، لئلا يقع الكلام غير مفيد ، وحمله على الصحة متعين ، قال  أبو الخطاب    : جواب آخر أنه يلزمهم مثل هذا الاستثناء لو أخرج ما لولاه لصح دخوله لوجب إذا استثناء الملائكة والجن أن يصح لأن دخولهم في قوله من دخل داري ضربته يصح ويصلح ، فكل ما يلزمنا يلزمهم مثله . وتقدم في الاستطابة كلام  أبي المعالي  أن كشف العورة خاليا هي مسألة سترها عن الملائكة والجن . وكلام صاحب المحرر وظاهر كلامهم يجب عن الجن ، لأنهم مكلفون أجانب ، وكذا عن الملائكة مع عدم تكليفهم ، لأن الآدمي مكلف ، وقد أمر الشرع في خبر  بهز بن حكيم    { يحفظها من كل أحد إلا من زوجته وأمته   } وهذا مع العلم بحضورهم ، فلا يرد الخبر المشهور { إن للماء سكانا   } ، وتقدم هل يلزم الغسل بجماع جني امرأة  ؟ ويأتي : هل [ يسقط ] فرض غسل ميت بغسلهم ، ويتوجه مثله فرض كل كفاية ، إلا الآذان فيتوجه سقوطه ، لقبول خبر صادق فيه ، ولا مانع ، لا سيما إذا سقط بصبي ، ويتوجه في حل ذبيحته كذلك ، بل تحل لوجود  [ ص: 610 ] المقتضي وعدم المانع ، ولعدم اعتبار التكليف فيه ، وذكر ابن الجوزي  في الموضوعات الخبر { أنه عليه السلام نهى عن ذبائح الجن   } فقال : وقيل معناه : أنهم إذا اشتروا دارا ، أو استخرجوا عينا ذبحوا لها ذبيحة لئلا يصيبهم أذى من الجن ، والله أعلم . وقال  ابن مسعود    : { وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح ، قال ذلك رجل بال الشيطان في أذنه   } متفق عليه ، خص الأذن لأنها حاسة الانتباه قال إبراهيم الحربي    : ظهر عليه وسخر منه ، ويتوجه احتمال أنه على ظاهره ، وقاله بعض العلماء ، ولهذا لما سمى ذلك الرجل في أثناء طعامه قاء الشيطان كل شيء أكله رواه  أبو داود   والنسائي  ، وصححه  الحاكم  ، فيكون بوله وقيؤه طاهرا ، وهذا غريب ، قد يعايا بها ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					