الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2580 17 - حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني قال : أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيبا فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عامل يهود خيبر على أموالهم وقال : نقركم ما أقركم الله ، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل ، ففدعت يداه [ ص: 305 ] ورجلاه ، وليس لنا هناك عدو غيرهم ، هم عدونا وتهمتنا ، وقد رأيت إجلاءهم ، فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال : يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا ؟ فقال عمر : أظننت أني نسيت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة ؟ فقال : كانت هذه هزيلة من أبي القاسم ، قال : كذبت يا عدو الله ، فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " نقركم ما أقركم الله " وقد قلنا إن معناه ما قدر الله أنا نترككم فإذا شئنا أخرجناكم ، وأبو أحمد اختلفوا فيه ، فذكر البيهقي في ( كتاب الدلائل ) ، وأبو مسعود ، وأبو نعيم الأصفهاني أنه المرار بفتح الميم وتشديد الراء ابن حمويه بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم الهمداني بفتح الميم وهو ثقة مشهور ، وكذا سماه ابن السكن في روايته ، وأبو ذر الهروي ، وقال الحاكم : أهل بخارى يزعمون أن أبا أحمد هذا هو محمد بن يوسف البيكندي ، ووقع في البخاري للأكثرين كذا أبو أحمد غير مسمى ولا منسوب ، ولابن السكن في روايته عن الفربري : حدثنا أبو أحمد مرار بن حمويه ، ووافقه أبو ذر وليس له في البخاري غير هذا الحديث ، وكذا شيخه وهو ومن فوقه مدنيون .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه )

                                                                                                                                                                                  قوله : ( لما فدع أهل خيبر عبد الله ) فدع بالفاء والدال والعين المهملتين فعل ماض ، وأهل خيبر بالرفع فاعله ، وعبد الله بالنصب مفعوله ، وزعم الهروي وعبد الغافر في ( معجمه ) أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل عبد الله ابنه إلى أهل خيبر ليقاسمهم التمر " ففدع " الفدع ميل في المفاصل كلها كأن المفاصل قد زالت عن مواضعها ، وأكثر ما يكون في الأرساغ ، قال : وكل ظليم أفدع لأن في أصابعه اعوجاجا قاله الأزهري في ( التهذيب ) ، وقال النضر بن شميل : الفدع في اليد أن تراه يعني البعير يطأ على أم قردانه فأشخص شخص خفه ولا يكون إلا في الرسغ ، وقال غيره : أن يصطك كعباه ويتباعد قدماه يمينا وشمالا ، وقال ابن الأعرابي : الأفدع الذي يمشي على ظهر قدمه ، وعن الأصمعي هو الذي ارتفع أخمص رجله ارتفاعا لو وطئ صاحبها على عصفور ما آذاه ، وفي خلق الإنسان لثابت إذا زاغت القدم من أصلها من الكعب وطرف الساق فذاك الفدع ، رجل أفدع وامرأة فدعاء وقد فدع فدعا ، وفي ( المخصص ) : هو عوج في المفاصل أو داء ، وأكثر ما يكون في الرسغ فلا يستطاع بسطه ، وعن ابن السكيت : الفدعة موضع الفدع ، وقال ابن قرقول في بعض تعاليق البخاري : فدع يعني كسر والمعروف ما قاله أهل اللغة ، وقال الكرماني : فدغ بالفاء والمهملة المشددة ثم المعجمة المفتوحات من الفدغ وهو كسر الشيء المجوف ، وقال بعضهم : ووقع في رواية ابن السكن بالغين المعجمة أي شدخ ، وجزم به الكرماني وهو وهم ، ( قلت ) : ليس الكرماني بأول قائل به حتى ينسب الوهم إليه مع أنه جنح في أثناء كلامه إلى أنه بالعين المهملة ، قوله : ( كان عامل يهود خيبر على أموالهم ) يعني التي كانت لهم قبل أن يفيئها الله على المسلمين ، قوله : ( نقركم ما أقركم الله ) أي إذا أمرنا في حقكم بغير ذلك فعلناه ، قاله ابن الجوزي ، قوله : ( فعدي عليه من الليل ) بضم العين وكسر الدال أي ظلم عليه ، وقال الخطابي : كان اليهود سحروا عبد الله بن عمر فالتوت يداه ورجلاه ، قيل : يحتمل أن يكونوا ضربوه ويؤيده تقييده بالليل ، ووقع في رواية حماد بن سلمة التي علق البخاري إسنادها آخر الباب بلفظ : " فلما كان زمان عمر رضي الله تعالى عنه غشوا المسلمين وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه ، الحديث ، قوله : ( وتهمتنا ) بضم التاء المثناة من فوق وفتح الهاء وقد تسكن أي الذين نتهمهم بذلك ، وأصله وهمتنا قلبت الواو تاء كما في التكلان أصله وكلان ، قوله : ( وقد رأيت إجلاءهم ) أي إخراجهم من أوطانهم ، يقال : جلا القوم عن مواضعهم جلاء وأجليتهم أنا إجلاء وجلوتهم قاله ابن فارس ، وقال الهروي : جلا وأجلى بمعنى ، والإجلاء الإخراج من الوطن على وجه الإزعاج والكراهة ، قوله : ( فلما أجمع عمر على ذلك ) أي عزم يقال : أجمع على الأمر إجماعا إذا عزم قاله ابن عرفة وابن فارس ، وقال أبو الهيثم : أجمع أمره أي جعله جميعا بعدما كان متفرقا ، قوله : ( أحد بني الحقيق ) بضم [ ص: 306 ] الحاء المهملة وبقافين بينهما ياء آخر الحروف ساكنة ، وبنو الحقيق رؤساء اليهود ، قوله : ( أتخرجنا ) من الإخراج والهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار ، والواو في وقد أقرنا للحال ، قوله : ( وقد عاملنا ) بفتح اللام ، قوله ( وشرط ذلك ) أي إقرارنا في أوطاننا ، قوله : ( أظننت ) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار ، والخطاب فيه لأحد بني حقيق ، قوله : ( إذا أخرجت ) على صيغة المجهول ، قوله : ( تعدو بك قلوصك ) أي تجري بك قلوصك ، والقلوص بفتح القاف وبالصاد الناقة الصابرة على السير ، وقيل الشابة ، وقيل : أول ما يركب من إناث الإبل ، وقيل : الطويل القوائم ، قوله : ( كانت هذه ) هذا هكذا في رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره كان ذلك ، قوله : ( هزيلة ) بضم الهاء تصغير هزلة ، والهزل ضد الجد ، قوله : ( وأعطاهم قيمة ما كان لهم ) أي بعد أن أجلاهم أعطاهم ، قوله : ( مالا تمييز للقيمة ) ( فإن قلت ) : الإبل والعروض أيضا مال ( قلت ) : قد يراد بالمال النقد خاصة والمزروعات خاصة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه )

                                                                                                                                                                                  فيه أن عمر رضي الله تعالى عنه أجلى يهود خيبر عنها لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " لا يبقين دينان بأرض العرب " وإنما كان صلى الله عليه وسلم أقرهم على أن سالمهم في أنفسهم ولا حق لهم في الأرض ، واستأجرهم على المساقاة ولهم شطر الثمر ، فلذلك أعطاهم عمر رضي الله عنه قيمة شطر الثمر من إبل وأقتاب وحبال يستقلون بها إذ لم يكن لهم في رقبة الأرض شيء ، وفيه دلالة أن العداوة توجب المطالبة بالجنايات كما طالبهم عمر بفدعهم ابنه ، ورشح ذلك بأن قال : ليس لنا عدو غيرهم ، فعلق المطالبة بشاهد العداوة ، وإنما ترك مطالبتهم بالقصاص لأنه فدع ليلا وهو نائم فلم يعرف عبد الله أشخاص من فدعه فأشكل الأمر كما أشكلت قضية عبد الله بن سهل حين وداه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند نفسه ، وفيه من استدل أن المزارع إذا كرهه رب الأرض لجناية بدت منه أن له أن يخرجه بعد أن يبتدئ في العمل ويعطيه قيمة عمله ونصيبه كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه ، وقال آخرون : ليس له إخراجه إلا عند رأس العام وتمام الحصاد والجداد ، وفيه جواز العقد مشاهرة ومسانهة ومياومة خلافا للشافعي واختلف أصحاب مالك هل يلزمه واحد مما سمى أو لا يلزمه شيء ، ويكون كل واحد منهما بالخيار كذا في ( المدونة ) ، والأول قول عبد الملك وفيه أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله محمولة على الحقيقة على وجهها من غير عدول حتى يقوم دليل المجاز والتعريض .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية