الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2484 3 - حدثنا آدم قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة قال : سمعت أنسا يقول : كان بالمدينة فزع ، فاستعار النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسا من أبي طلحة يقال له المندوب ، فركب ، فلما رجع قال : ما رأينا من شيء ، وإن وجدناه لبحرا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  وآدم هو ابن أبي إياس .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن بندار عن غندر عن أحمد بن محمد ، وفي الجهاد وفي الأدب عن مسدد عن يحيى .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في فضائل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن أبي موسى وبندار ، وعن يحيى بن حبيب ، وعن أبي بكر عن وكيع .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود في الأدب عن عمرو بن مرزوق ، وأخرجه الترمذي في الجهاد عن محمود بن غيلان ، وعن بندار وابن أبي عدي وأبي داود .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي في السير عن إسحاق بن إبراهيم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فزع ) ; أي خوف من عدو .

                                                                                                                                                                                  قوله ( من أبي طلحة ) هو زيد بن سهل زوج أم أنس .

                                                                                                                                                                                  قوله ( المندوب ) مرادف المسنون ، وهو اسم فرس أبي طلحة ، قال ابن الأثير : هو من الندب وهو الرهن الذي يجعل في السباق . وقيل : سمي به لندب كان في جسمه وهو أثر الجرح .

                                                                                                                                                                                  قوله ( من شيء ) ; أي من العدو وسائر موجبات الفزع .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وإن وجدناه لبحرا ) ، وفي رواية المستملي " إن وجدنا " بحذف الضمير . قال الخطابي : " إن " هي النافية ، واللام في " لبحرا " بمعنى إلا ، أي ما وجدناه إلا بحرا ، والعرب تقول إن زيدا لعاقل ، أي ما زيد إلا عاقل ، وعلى هذا قراءة من قرأ " إن هذان لساحران " بتخفيف ، والمعنى : ما هذان إلا ساحران . وقال ابن التين : هذا مذهب الكوفيين ، ومذهب البصريين أن " إن " هي مخففة من الثقيلة واللام زائدة .

                                                                                                                                                                                  والبحر هو [ ص: 182 ] الفرس الواسع الجري ، وزعم نفطويه أن البحر من أسماء الخيل وهو الكثير الجري الذي لا يفنى جريه كما لا يفنى ماء البحر ، ويؤيده ما في رواية سعيد عن قتادة " فكان بعد ذلك لا يجارى " . وقال عياض : إن في خيل سيدنا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرسا يسمى البحر اشتراه من تجار قدموا من اليمن ، فسبق عليه مرات ، ثم قال بعد ذلك : يحتمل أنه تصير إليه بعد أبي طلحة . قيل : هذا نقض للأول ، لكن لو قال إنهما فرسان اتفقا في الاسم لكان أقرب . قلت : كان للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أربعة وعشرون فرسا منها سبعة متفق عليها ; وهي : السكب ; اشتراه من أعرابي من بني فزارة ، وهو أول فرس ملكه وأول فرس غزا عليه ، وكان كميتا . والمرتجز ; اشتراه من أعرابي من بني مرة ، وكان أبيض . ولزاز ; أهداه له المقوقس . واللحيف ; أهداه له ربيعة بن أبي البراء . والظرب ; أهداه له فروة بن عمرو عامل البلقاء لقيصر الروم . والورد ; أهداه له تميم الداري فأعطاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فحمل عليه في سبيل الله ثم وجده يباع برخص فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تشتره . وسبحة ، والبقية مختلف فيها ، وذكر فيها البحر والمندوب ; أما البحر فقد ذكر عياض أنه اشتراه من تجار قدموا من اليمن ، وأما المندوب فهو الذي ركبه أبو طلحة من ندبه فانتدب ، أي دعاه فأجاب .

                                                                                                                                                                                  فقوله صلى الله عليه وسلم " إن وجدناه لبحرا " معناه وجدنا الفرس الذي يسمى مندوبا بحرا ، فقوله " بحرا " صفته وليس المراد منه ذاك الفرس الذي اشتراه من التجار المسمى بالبحر .

                                                                                                                                                                                  وأما ذكر المندوب في خيل النبي - صلى الله عليه وسلم - فالظاهر أن أبا طلحة وهبه له ، فمن حسن جريه شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - ببحر ، فدل ذلك على أن البحر اسم للفرس الذي اشتراه من التجار ، والبحر الآخر صفة للمندوب ، وهذا تحرير الكلام .

                                                                                                                                                                                  وقد جمع بعضهم أفراس النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في بيت وهي الأفراس المتفق عليها ، فقال :


                                                                                                                                                                                  والخيل سكب لحيف سبحة ظرب لزاز مرتجز ورد لها أسرار

                                                                                                                                                                                  وآخر جمع أسيافه :


                                                                                                                                                                                  إن شئت أسماء أسياف النبي فقد جاءت بأسمائها السبع أخبار
                                                                                                                                                                                  قل : محذم ثم حتف ذو الفقار وقل غضب رسوب وقلعي وبتار

                                                                                                                                                                                  قلت : سيوفه عشرة ; هذه سبعة ، والثلاثة الأخرى : رسوب ، ومأثور ورثه من أبيه قدم به المدينة وهو أول سيف ملكه ، وصمصامة سيف عمرو معدي كرب وهبه لخالد بن سعيد . ويقال : وله سيف آخر يدعى القضيب وهو أول سيف تقلد به ، قاله النيسابوري في كتاب شرف المصطفى .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال : اختلف العلماء في عارية الحيوان والعقار مما لا يغاب عنه ; فروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا وغيره مما لا يغاب عنه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي ، وهو قول الكوفيين والأوزاعي . وقال عطاء : العارية مضمونة على كل حال كانت مما لا يغاب عنه أم لا تعدى فيها أو لا ، وبه قال الشافعي وأحمد ، وقالت الشافعية : إلا إذا تلف من الوجه المأذون فيه فلا ضمان عندنا . وقال أصحابنا الحنفية : العارية أمانة ، إن هلكت من غير تعد لم تضمن . وهو قول علي وابن مسعود والحسن والنخعي والشعبي والثوري وعمر بن عبد العزيز وشريح والأوزاعي وابن شبرمة وإبراهيم ، وقضى شريح بذلك ثمانين سنة بالكوفة . وقال الشافعي : تضمن . وبه قال أحمد ، وهو قول ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وإسحاق . وقال قتادة وعبد الله بن الحسين العنبري : إن شرط ضمانها ضمن ، وإلا فلا . وقال ربيعة : كل العواري مضمونة . وفي الروضة : إذا تلفت العين في يد المستعير ضمنها ، سواء تلفت بآفة سماوية أم بفعله بتقصير أم بلا تقصير ، هذا هو المشهور . وحكي قول آخر أنها لا تضمن إلا بالتعدي ، وهو قول ضعيف ، ولو أعار بشرط أن يكون أمانة لغي الشرط وكانت مضمونة ، وفي حاوي الحنابلة : إن شرط نفي ضمانها سقط الضمان ، وإن تلف جزؤها باستعماله كحمل منشفة لم يضمن في أصح الوجهين ، انتهى . قلت : ولو شرط الضمان في العارية هل يصح ؟ فالمشايخ فيه مختلفون ، كذا في التحفة . وقال في خلاصة الفتاوى : رجل قال لآخر أعرني ثوبك فإن ضاع فأنا له ضامن ، قال : لا يضمن . ونقله عن المنتقى .

                                                                                                                                                                                  واحتج الشافعي ومن معه بأحاديث ; منها حديث أبي أمامة أخرجه أبو داود عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يقول : العارية مؤداة ، والزعيم غارم . وحسنه الترمذي ، وصححه ابن حبان .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 183 ] استعار منه أدرعا يوم حنين ، فقال : أغصبا يا محمد ؟ قال : لا ، بل عارية مضمونة . رواه أبو داود والنسائي .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث يعلى بن أمية ، رواه أبو داود والنسائي عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أتتك رسلي فادفع إليهم ثلاثين درعا . فقلت : يا رسول الله ، إعارة مضمونة أم عارية مؤداة ؟

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث سمرة ، رواه الأربعة عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على اليد ما أخذت حتى تؤديه . وحسنه الترمذي ، وقال الحاكم : صحيح على شرط البخاري .

                                                                                                                                                                                  وحجة الذين ينفون الضمان إلا بالتعدي ما رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننيهما عن عمرو بن عبد الجبار عن عبيدة بن حسان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ليس على المستودع غير المغل ضمان ، ولا على المستعير غير المغل ضمان . وروى ابن ماجه في سننه عن المثنى بن صباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أودع وديعة فلا ضمان عليه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال الدارقطني : عمرو بن عبد الجبار وعبيدة ضعيفان ، وإنما يروى هذا من قول شريح غير مرفوع - قلت : قيل الجرح المبهم لا يقبل ما لم يتبين سببه ، ورواية من وقفه لا تقدح في رواية من رفعه ، وقيل : عبيدة هذا لم يضعفه أحد من أهل هذا الشأن ، وذكره البخاري في تاريخه ولم يذكر فيه جرحا ، وكذا عمرو بن عبد الجبار لم يضعفه أحد غير أن ابن عدي لما ذكره لم يزد على قوله : له مناكير . وقد اعترض بعضهم على القائل المذكور بأن عبيدة قال فيه أبو حاتم الرازي : إنه منكر الحديث . وقال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الثقات . ورد عليهما بأنهما لم يبينا سبب الجرح ، والجرح المجرد لا يقبل . على أن البخاري لما ذكره في تاريخه لم يتعرض إليه بشيء ، والجواب عن حديث أبي أمامة أنه ليس فيه دلالة على التضمين ; لأن الله تعالى قال : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فإذا تلفت الأمانة لم يلزمه ردها .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث صفوان بن أمية فهو مضطرب سندا ومتنا ، وجميع وجوهه لا يخلو عن نظر ، ولهذا قال صاحب التمهيد : الاضطراب فيه كثير ولا حجة فيه عندي في تضمين العارية ، انتهى . ثم على تقدير صحته قوله " مضمونة " أي مضمونة الرد عليك ، بدليل قوله " حتى يؤديها إليك " ، ويحتمل أن يريد اشتراط الضمان ، والعارية بشرط الضمان مضمونة في رواية للحنفية ، وروى عبد الرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : العارية بمنزلة الوديعة ، ولا ضمان فيها إلا أن يتعدى . وأخرج عن علي رضي الله تعالى عنه : ليس على صاحب العارية ضمان . وأخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه : العارية ليست بيعا ولا مضمونة ، إنما هو معروف إلا أن يخالف فيضمن .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث سمرة فإن الأداء فيه فرض ولا يلزم منه الضمان ، ولو لزم من اللفظ الضمان للزم الخصم أن يضمن المرهون والودائع لأنها مما قبضته اليد .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية