( الفرق التاسع والخمسون والمائة بين قاعدة أولاد الصلب والأبوين في إيجاب النفقة لهم خاصة وبين قاعدة غيرهم من القرابات )
اعلم أن مالكا أوجب النفقة لأولاد الصلب والأبوين خاصة وأوجبها الشافعي لكل من هو بعض من الآباء والأمهات وإن علوا والأولاد وإن سفلوا لقوله تعالى { وبالوالدين إحسانا } ولقوله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } وليس من الإحسان تركهما بالجوع والعري ولقوله عليه السلام في البخاري يقول لك ولدك إلى من تكلني الحديث وأب الأب أب وأم الأم أم وابن الابن ابن وقال أبو حنيفة رضي الله عنه تجب النفقة لكل ذي رحم محرم لقوله تعالى { وآت ذا القربى حقه } وأجمعنا على تخصيص من ليس بمحرم وبقي من عداه على العموم ولقوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ ص: 147 ] والجواب عما قاله الشافعي أولا أنا لا نسلم أن لفظ الأب والأم والابن يتناول غير الأدنين من هذه الفرق ويدل على ذلك أن الله تعالى فرض للأم الثلث ولم تسحقه الجدة وحجب الإخوة بالأب ولم يحجبهم بالجد وأن بنت الابن لها السدس مع بنت الصلب بخلاف بنت الصلب مع أختها فلو كانت هذه الألفاظ تتناول هذه الطبقات على اختلافها بطريق التواطؤ حقيقة لزم تعميم الحكم فيها كلها على السواء وإلا لزم ترك العمل بالدليل وهو خلاف الأصل فدل ذلك على أن اللفظ إنما يتناول هذه الطوائف بطريق المجاز والأصل عدم المجاز حتى يدل دليل عليه بل يجب التمسك بالحقيقة والاقتصار عليها حتى يدل دليل على غيرها ثم اللازم هنا الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو مجاز مختلف فيه بين العلماء هل يجوز في لسان العرب أم لا ونحن المجاز المجمع عليه في لسان العرب لا نعدل باللفظ إليه إلا بدليل والحمل عليه من غير دليل خطأ قطعا فههنا بطريق الأولى لكونه ضعيفا من جهة أنه مجاز وأنه مختلف في جوازه لغة وهذا هو الفرق .
وهو فرق جلي جدا والجواب عما قاله أبو حنيفة رضي الله عنه عن الأول أن الله تعالى إنما أمر بما هو حق لذوي القربى والنزاع في النفقة هل هي حق لهم أم لا فلا نسلم تناول اللفظ لها حينئذ فلا دليل [ ص: 148 ] في الآية والجواب عن الثاني أنه عام في ذوي الأرحام مطلق فيما هم فيه أولى فإن لفظ أولى نكرة في سياق الإثبات وذلك لا عموم فيه فنحمله على ولاية النكاح والمعاوضة والمناصرة المجمع عليها فإنهم أولى بنصر بعضهم بعضا والإحسان إلى بعضهم بعضا بالنصرة إجماعا وإذا أجمع على إعمال المطلق في صورة وأنها مرادة من النص سقط الاستدلال به إجماعا إذ لو عدي حكمه إلى صورة أخرى لكان عاما لا مطلقا والتقدير أنه مطلق وهذا خلف وكما يمتنع جعل العام مطلقا بغير دليل يمتنع جعل المطلق عاما بغير دليل فظهر من هذه الاستدلالات وهذه الأجوبة صحة مذهب مالك وتفضيله على غيره في هذه المسألة وظهر الفرق أيضا من خلال ذلك ظهورا بينا .


