الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثالثة : الزينة ، وهي مستحبة في هذا اليوم وهي ثلاثة الكسوة والنظافة وتطييب الرائحة .

أما النظافة فبالسواك ، وحلق الشعر وقلم الظفر وقص الشارب وسائر ما سبق في كتاب الطهارة .

قال ابن مسعود من قلم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله عز وجل منه داء وأدخل فيه شفاء فإن كان قد دخل الحمام في الخميس أو الأربعاء ، فقد حصل المقصود فليتطيب في هذا اليوم بأطيب طيب عنده ليغلب بها الروائح الكريهة ويوصل بها الروح ، والرائحة إلى مشام الحاضرين في جواره وأحب طيب الرجال ما ظهر ريحه ، وخفي لونه وطيب النساء ما ظهر لونه ، وخفي ريحه وروي ذلك في الأثر .

وقال الشافعي رضي الله عنه : من نظف ثوبه قل همه ، ومن طاب ريحه زاد عقله .

.

التالي السابق


(الثالثة: الزينة، وهي مستحبة في هذا اليوم) لكونه عيدا للمسلمين، وقد أمروا في الأعياد الشرعية بالزينة (وهي) موجودة (في ثلاث) خصال (الكسوة) ، أي: اللباس الحسن، وبه فسرت الآية: خذوا زينتكم عند كل مسجد (والنظافة) ، أي: نظافة الجسد (وتطييب الرائحة) بأي طيب كان (أما النظافة فبالسواك، وحلق الشعر) ، أي: شعر الرأس إذ كان حدث في عصر المصنف وقبله حلق ذلك، ولم يعهد عن السلف؛ بل كان من السنة توفيره، وكل من حلق يرمى بريبة الخوارج، وورد في بعض الأخبار في علامات الخوارج: سيماهم التحليق، أي: حلق شعور الرأس، وهو أول بدعة أحدثوها ليمتازوا به عن غيرهم، وكانوا يجعلون حلقه من جملة التعسف، ويحتمل أن يكون المراد به حلق شعر العانة، فقد ورد في ذلك كما تقدم (وتقليم الأظفار) ، أي: قطعها، وقصها إن احتاج إلى ذلك، (وقص الشارب) إن وفر واحتيج إلى إزالة ما زاد (وسائر ما سبق في كتاب الطهارة) مما يزال، فإنه داخل في النظافة، وقد ورد: الإسلام نظيف فتنظفوا، والسواك يطيب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة، وإزالة ما يضر بالملائكة وبني آدم من تغير الفم، وقد تقدمت الأخبار في فضله في أول كتاب الطهارة، وروى البخاري من حديث سليمان: لا يغتسل أحد يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه .. إلى أن قال: إلا غفر له. الحديث، قال الشراح: المراد بالتطهير غسل الرأس، وتنظيف الثياب، وفي القوت: وليقلم أظفاره، وليأخذ من شاربه، فقد روي ذلك من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أمره .

(وقال ابن مسعود) -رضي الله عنه-: (من قلم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منه داء وأدخل فيه شفاء) ، ولفظ القوت: وروينا عن ابن مسعود وغيره: من قلم ظفرا، أو أظفاره يوم الجمعة أخرج منها داء وأدخل فيها شفاء. اهـ .

وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عائشة: من قلم أظفاره يوم الجمعة وقي من السوء إلى مثلها. وقال ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا معاذ عن المسعودي، عن ابن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: من قلم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منها الداء وأدخل فيها الشفاء.

(فإن كان قد دخل الحمام في) يوم (الخميس، والأربعاء، فقد حصل المقصود) الذي هو نظافة الجسد، ثم أشار إلى النوع الثاني من الزينة، فقال: (وليتطيب في هذا اليوم بأطيب طيب) يوجد (عنده) في بيته (ليغلب به الروائح الكريهة) الحاصلة من العرق، وغيره (ويوصل بذلك الروح، والرائحة إلى مشام الحاضرين) ، أي: أنوفهم (في جواره) عن يمين وشمال .

وأخرج البخاري من حديث سليمان: لا يغتسل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهور، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته. قال الشراح:

[ ص: 252 ] أي: ليطلي بالدهن ليزيل شعث رأسه، ولحيته به، وقوله: أو يمس من طيب بيته؛ أي: إن لم يجد دهنا، أو بمعنى الواو، وقد جاء في رواية ابن عساكر: ويمس من طيب بيته، وأضاف الطيب إلى البيت إشارة إلى أن السنة اتخاذ الطيب في البيت، ويجعل استعماله عادة، وعند أبي داود من حديث ابن عمر: أو يمس من طيب امرأته.

وأخرج ابن أبي شيبة، عن الزهري، أخبرني ابن نياق، أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال في جمعة من الجمع: إن هذا يوم عيد فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك.

وأخرج أيضا عن أبي بكر بن عمر بن عتبة، عن ابن مغفل قال: لها - أي: للجمعة - غسل، وطيب إن كان. وأخرجه أيضا عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجل من الأنصار، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رفعه: ثلاثة حق على كل مسلم: الغسل يوم الجمعة، والسواك، ويمس من طيب إن كان (وأحب طيب الرجال) اللائق بهم المناسب لشهامتهم (ما ظهر ريحه، وخفي لونه) كالمسك، والعنبر، وفيه تأديب؛ إذ فيما ظهر لونه رعونة، وزينة لا تليق بالرجولية (وطيب النساء ما ظهر لونه، وخفي ريحه) عن الأجانب كالزعفران وغيره .

قال البغوي: قال سعد: أراهم حملوا قوله: وطيب النساء على ما إذا أرادت الخروج. أما عند زوجها، فتتطيب بما شاءت (وروي ذلك في الأثر) أخرجه أبو داود، والترمذي في الاستئذان، وحسنه، والنسائي، عن أبي هريرة، والعقيلي، والعراقي، والضياء، والبزار، عن أنس، ورجال البزار رجال الصحيح، وأخرجه ابن عساكر، عن يعلى بن مرة الثقفي، والعقيلي، عن أبي عثمان مرسلا، وقال: هو أصح، وأخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث أبي سعيد: أطيب الطيب المسك.

(وقال الشافعي -رضي الله عنه- : من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله) تقدم سنده في كتاب العلم في مناقب الشافعي - رضي الله عنه .



(تنبيه) :

ودخل في الطيب أنواعه على كثرته مسا وتبخيرا، فمن أحسن ما يتطيب به بعد المسك الأدهان المستخرجة من الأخشاب، وغيرها كدهن الصندل، ودهن الليمون، وأشرفها دهن الورد، وهو المعروف بعطر شاه؛ أي: سلطان العطور، وبعده دهن النسرين، فهو يقاربه في الرائحة، وعلى ذلك المياه المستخرجة من الورد، والزهورات على اختلاف أنواعها وكثرتها، فإن لم يجد إلا ماء الورد لكفى، وقد قيل: إن الشافعي -رضي الله عنه- كان يكره ماء الورد، ويقول: إنه يشبه رائحة المسكر .

قال بعض أئمته المقلدين له: وعندي - والله أعلم - أن الشافعي رأى الماورد وقد فسد وتغير، فظن أن ماء الورد كله كذلك؛ لأنه لا يوجد ببلادهم إلا مجلوبا من بلاد بعيدة، فربما فسد في أثناء الطريق لبعد المسافة، وتعاقب الحر والبرد، هذا إذا قلنا بصحة هذا النقل عنه، وهو بعيد من الصحة، كذا نقله ابن طولون في التقريب، وأنا لا أستبعد صحة هذا النقل، فإنه إذ ذاك لم يكن كثر استخراجه على هذه الطريقة المعهودة التي أحدثوها فيما بعد، ويدل لذلك أن ماء الورد الموجود الآن بأرض اليمن رائحته متغيرة يدركها الإنسان في استعماله، كما قاله الشافعي -رضي الله عنه-، وليس ذلك لنقله من البلاد البعيدة، وفساده، كما قاله من تقدم ذكره، ولكن لعدم معرفتهم في كيفية استخراجه من الورد، ولم تكن صنائع الحكمة الخفية دخلت في البلاد إذ ذاك، وأما الآن، فالأمر فيه معلوم لا مرية فيه لونه الماء الخالص، ورائحته كأنه ورد قطف الساعة، فلو كان هذا فيه موجودا إذ ذاك لاستطابه الشافعي قطعا، وقوله: لا يوجد ببلادهم إلا مجلوبا هذا فيه نظر، فإن كان يشير إلى أيام إقامته ببغداد، فلا أدري. وإن كان أيام إقامته بمصر، فإن الورد كان يزرع بمصر كثيرا من القديم، فكيف يقال: إنه كان مجلوبا، فتأمل ذلك .




الخدمات العلمية