الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعن رجل آخر أنه صلى في حائط له ، والنخل مطوقة بثمرها فنظر إليها فأعجبته ولم يدر كم صلى فذكر ذلك لعثمان رضي الله عنه وقال : هو صدقة ، فاجعله في سبيل الله عز وجل ، فباعه عثمان بخمسين ألفا .

فكانوا يفعلون ذلك قطعا لمادة الفكر وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة وهذا هو الدواء القاطع لمادة العلة ولا يغني غيره .

فأما ما ذكرناه من التلطف بالتسكين والرد إلى فهم الذكر ، فذلك ينفع في الشهوات الضعيفة والهمم التي لا تشغل إلا حواشي القلب .

فأما الشهوة القوية المرهقة فلا ينفع فيها التسكين بل لا تزال تجاذبها وتجاذبك ثم تغلبك وتنقضي جميع صلاتك في شغل المجاذبة .

ومثاله رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره وكانت أصوات العصافير تشوش عليه فلم يزل يطيرها بخشبة في يده ويعود إلى فكره ، فتعود العصافير فيعود إلى التنفير بالخشبة ، فقيل له : إن هذا أسير السواني ولا ينقطع فإن أردت الخلاص فاقطع الشجرة .

فكذلك شجرة الشهوات إذا تشعبت وتفرعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار وانجذاب ، الذباب إلى الأقذار والشغل يطول في دفعها فإن الذباب كلما ذب آب ولأجله سمي ذبابا .

فكذلك الخواطر وهذه الشهوات كثيرة وقلما يخلو العبد عنها ويجمعها أصل واحد وهو حب الدنيا وذلك رأس كل خطيئة ، وأساس كل نقصان ، ومنبع كل فساد .

التالي السابق


(وعن رجل آخر أنه صلى في حائط له، والنخل مطوقة بثمرها فنظر إليه فأعجبه) ، وفي نسخة: إليها فأعجبته، (فلم يدر كم صلى) ، فرجع (فذكر ذلك لعثمان -رضي الله عنه- وقال: هو صدقة، فاجعله في سبيل الله عز وجل، فباعه عثمان بخمسين ألفا) ، لم يذكره العراقي، والظاهر أن هذه القضية اتفقت في خلافة سيدنا عثمان، والعهد قريب، فيحتمل أن ذلك الرجل ممن له صحبة، (فكانوا يفعلون ذلك قطعا لمادة الفكر) الذي أورثهم الشك في الصلاة، (و) الخروج عن ملكيته (كفارة لما جرى من نقصان الصلاة) ، فلعله بذلك لا يكون مؤاخذا بين يدي الله تعالى، (وهذا هو الدواء القامع) الكاسر (لمادة العلة) ، وفي نسخة: الغفلة، (ولا يغني غيره) ، ولا ينجع، (فإن ما ذكرناه) ، وفي نسخة: فأما ما ذكرناه آنفا (من التلطف بالتسكين والرد إلى فهم الذكر، فذلك ينفع في الشهوات الضعيفة) التي ما تمكنت من القلب ولا رسخت فيه، (والهمم التي لا تشغل إلا حواشي القلب) ، أي: أطرافه، (فأما الشهوة القوية المرهقة) ، أي: المعسرة، يقال: أرهقته إذا أعسرته، (فلا ينفع فيها التسكين) بوجه من الوجوه، (بل لا تزال تجاذبها وتجاذبك) مغالبة، (ثم تغلبك) آخرا، (وينقضي جميع صلاتك في شغل المجاذبة) ، ولم تستفد شيئا، وكلما مر وقت، فهي تزداد بإرهاقها وتضعف قوتك عن مقاومتها؛ لأن الشخص إذا غلب مرة ضعف في عين قرينه فيهابه أن يقابله ثانيا إلا بهيبة وخوف، هذا إذا كان القرين ممن يرى في الظاهر، والشهوة قرينة الإنسان في الباطن، فهي لا تنفك عنه بحال ولا ترى حتى يحتال إلى دفعها إلا بمعونة الله تعالى .

(ومثال ذلك مثال رجل تحت شجرة) ذات أغصان وفروع، (يريد أن يصفو له فكره) وتجتمع حواسه، (وكانت أصوات العصافير) على تلك الأغصان (تشوش عليه) ، أي: تفرق عليه الوقت، (فلم يزل يطيرها بخشبة في يده) ، فيطيرون، (ويعود إلى) ما كان عليه من (فكره، فتعود العصافير) إلى أصواتها المختلفة، (ويعود) الرجل (إلى التنفير) والتطيير (بالخشبة، فقيل له: إن هذا سير السواني) ، جمع سانية، وأصلها البعير يسنى عليه من البشر أو يستقى، والسحابة تسنو الأرض أي: تسقيها، فهي سانية، أيضا وأراد هنا من السانية الدولاب الذي يدور بالماء، ويضرب المثل في سير السواني في كل ما لا ثمرة في حركته، وإن آخره كأوله لا يزيد ولا ينقص، ولذلك قال: (ولا ينقطع فإن [ ص: 131 ] أردت الخلاص) عن ذلك (فاقطع الشجرة) من أصلها تسترح، (فكذلك شجرة الشهوات) ، وفي نسخة: الشهوة، (إذا تشعبت) ، أي: صارت ذات شعب، (وتفرعت أغصانها) ، وكثرت (انجذبت إليها الأفكار) الرديئة (انجذاب) تلك (العصافير إلى) أغصان (الأشجار، وكانجذاب الذباب إلى الأقذار) الذباب بالضم معروف، والأقذار جمع قذر بالتحريك هو النتن، (والشغل يطول في دفعها) ، وطردها، (فإن) من شأن (الذباب كلما ذب) أي: طرد (آب) ، أي: رجع (ولأجله سمي ذبابا) هذا هو المشهور بين ألسنة الناس، فيكون من باب المنحوت، كما قال بعضهم في تسمية العصفور لأنه عصى وفر، والصحيح عند أئمة اللغة خلاف ذلك، وهو فعال من ذبه إذا نحاه، وقد أشرت إلى ذلك في شرحي على القاموس فراجعه، (فكذا الخواطر) النفسية كلما دفعت رجعت، ولا تندفع بالكلية إلا بقطع مادتها، (وهذه الشهوات كثيرة) مختلفة الأنواع باختلاف المعاصي والقبائح، (وقلما يخلو العبد عنها) في حالة من حالاته، وفي نسخة: وقلما يخلو أحد منها، (ويجمعها أصل واحد) منه منشؤها، (وهو حب الدنيا) ، والميل إليها، والمراد بالدنيا أمورها المتعلقة بها المزينة للإنسان في عينه التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب ، الآية، والمراد بالحب هنا الاختياري بأن يختار لنفسه حب شيء من أمورها تعمدا وقصدا لا اضطرارا، فإن الإنسان مجبول على حب ولده وزوجته وما ملكته يداه من الأنعام والحرث، ثم إن كل ما أعان العبد على الآخرة من أمور الدنيا فليس داخلا في حد الدنيا، فإنها إنما جعلت قنطرة للآخرة يتبلغ بها العبد قدر حاجته في سفره إلى مولاه، (وذلك) أي: حبها (رأس كل خطيئة، وأساس كل نقصان، ومنبع كل فساد) ، وقد اشتهر على الألسنة: حب الدنيا رأس كل خطيئة، واختلف فيه، هل هو من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ ففي المقاصد للحافظ السخاوي أخرجه البيهقي في الحادي والسبعين من الشعب بإسناد حسن إلى الحسن البصري رفعه مرسلا، وأورده الديلمي في الفردوس وتبعه ولده بلا إسناد عن علي رفعه، وهو عند البيهقي أيضا في الزهد، وأبي نعيم في ترجمة الثوري من الحلية من قول عيسى بن مريم عليه السلام، وعند ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان له من قول مالك بن دينار، وعند ابن يونس في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي في تاريخ مصر له من قول سعد هذا، وجزم ابن تيمية أنه من قول جندب البجلي رضي الله عنه، وللديلمي من حديث أبي هريرة رفعه: "أعظم الآفات تصيب أمتي جمعهم الدنيا وحبهم الدنانير والدراهم، لا خير في كثير فيمن جمعها، إلا من سلطه الله على هلكتها في الحق". اهـ .




الخدمات العلمية