الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكذلك القملة ، والبرغوث مهما تأذى بهما كان له دفعهما وكذلك حاجته إلى الحك الذي يشوش عليه الخشوع .

كان معاذ يأخذ القملة ، والبرغوث في الصلاة .

وابن عمر كان يقتل القملة في الصلاة حتى يظهر الدم على يده .

وقال النخعي يأخذها ويوهنها ولا شيء عليه إن قتلها .

وقال ابن المسيب يأخذها ويخدرها ثم يطرحها .

وقال مجاهد الأحب إلي أن يدعها إلا أن تؤذيه ، فتشغله عن صلاته فيوهنها قدر ما لا تؤذي ، ثم يلقيها .

وهذه رخصة ، وإلا فالكمال الاحتراز عن الفعل وإن قل .

ولذلك كان بعضهم لا يطرد الذباب وقال : لا أعود نفسي ذلك فأفسد علي ، صلاتي .

وقد سمعت أن الفساق بين يدي الملوك يصبرون على أذى كثير ولا يتحركون .

ومهما تثاءب فلا بأس أن يضع يده على فيه وهو ، الأولى .

وإن عطس حمد الله عز وجل في نفسه ولا ، يحرك لسانه .

وإن تجشأ فينبغي أن لا يرفع رأسه إلى السماء .

[ ص: 305 ]

التالي السابق


[ ص: 305 ] وقال أصحابنا: الفعل إن تضمن ترك واجب فهو مكروه كراهة تحريم، وإن تضمن ترك سنة فهو مكروه كراهة تنزيه، ولكن تفاوت في الشدة والقرب من التحريمية بحسب تأكد السنة، وإن لم يتضمن ترك شيء منها، فإن كان أجنبيا من الصلاة ليس فيه تتميم، ولا فيه دفع ضرر، فهو مكروه أيضا، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا التفصيل في المكروهات، واحترزوا بما ليس فيه دفع ضرر من نحو قتل الحية، والعقرب، فإنه لا يكره (وكذلك القملة، والبرغوث مهما تأذى بهما كان له دفعهما) بإزالتهما، ونقل أصحابنا عن الإمام أبي حنيفة كراهة قتل القمل في الصلاة، ففي الخلاصة قال أبو حنيفة: لا يقتل القمل في الصلاة، ويدفنها تحت الحصى، وقال محمد: قتلها أحب إلي من دفنها، وكلاهما لا بأس به، وقال أبو يوسف: يكره كلاهما، وقال قاضيخان: وروي عن أبي حنيفة أنه إن أخذ قملة، أو برغوثا، فقتلهما، ودفنهما، فقد أساء .

قلت: والذي يؤخذ بقول محمد فيما إذا قرصته، فإن أخذها حينئذ يكون بعذر لدفع ضررها؛ لأن تركها يذهب الخشوع، ويشغل القلب بالألم، والفعل الذي فيه دفع الضرر لا يكره؛ بل لو قيل: إن تركها مكروه لم يبعد؛ لأنه يشغل القلب، فإذا أخذها فإما أن يقتلها، أو يدفنها، لكن دفنها أحب إن تيسر؛ لأن في قتلها إيجاد نجاسة على قول الشافعي؛ لأن قشرها نجس، وما دامت حية؛ فهي طاهرة، ففي عدم قتلها تحرز عن الخلاف؛ لئلا يحمل النجاسة المانعة على قول بعض الأئمة، أو يلقيها في المسجد كان أحب، وتحمل الإساءة، والكراهة المروية عن الإمام، وأبي يوسف على أخذها قصدا من غير عذر. والله أعلم .

وفي الأجناس إذا قتل القملة مرارا؛ أي: بقتلات متعددة، أو قتل قملات متعددة إن قتل قتلا متداركا بأن لم يكن بين قتلتين قدر ركن تفسد صلاته، وإن كان بين القتلات فرصة؛ أي: مهلة قدر ركن لا تفسد صلاته، ولكن الكف عنه أفضل (وكذا حاجته إلى الحك الذي يشوش عليه الخشوع) في الصلاة، فهو فعل أجنبي يحصل بسببه شغل القلب، فهو مكروه، وقال أصحابنا: لو حك المصلي جسده مرة، أو مرتين متتاليتين لا تفسد صلاته للقلة، وكذا إذا حك مرارا غير متواليات بأن لم تكن في ركن واحد، فلو توالى فعله ذلك في ركن واحد فسدت؛ لأنه كثير. هذا إذا رفع يده في كل مرة، أما إذا لم يرفع في كل مرة فلا؛ لأنه حك واحد، كذا في الخلاصة (كان معاذ) بن جبل -رضي الله عنه- (يأخذ القملة، والبرغوث في الصلاة) أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: كان معاذ بن جبل يأخذ البرغوث في الصلاة فيفركه بيده حتى يقتله، ثم يبزق عليه، وعن وكيع، عن نور الشامي، عن راشد بن سعد، عن مالك بن يخامر: رأيت معاذ بن جبل يقتل القمل والبراغيث في الصلاة. (و) عبد الله (بن عمر) - رضي الله عنهما - (كان يقتل القملة والبرغوث في الصلاة حتى يظهر الدم على يده) ، أي: اليسير منه، وكان يراه عفوا، وهذا القول أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن عمر بن الخطاب يقتل القملة في الصلاة، ثم يظهر دمها على يده (وقال) إبراهيم (النخعي) - رحمه الله - لما سأله رجل عن القملة في الصلاة أكلته (تأخذها) بأصبعيك (وتوهيها) ، أي: تضعفها عن الحركة (ولا شيء عليه إن قتلها) ، أي: هو عمل قليل لا يفسد الصلاة، وهذا قول أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن حماد عنه بلفظ: إن قتلها في الصلاة فلا شيء .

وأخرج أيضا من طريق سفيان، عن منصور عنه في الرجل يجد القملة في الصلاة، قال: يدفنها. (وقال) سعيد (بن المسيب) - رحمه الله - (يأخذها) بيده (فيخدرها) ، أي: يمرسها حتى تضعف (ثم يطرحها) على الأرض، وهذا قد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبيدة، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن سالم بن يسار عنه .

(وقال مجاهد) - رحمه الله - (الأحب إلي أن يدعها) ، أي: يتركها، فإن في الصلاة شغلا عنها (إلا أن تؤذيه، فتشغله عن صلاته) ، أي: عن الخشوع فيها (فيوهيها قدر ما لا تؤذيه، ثم يلقيها) ، أي: يرميها، وهذا القول أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن إسرائيل، عن ثوير عنه بمعناه .

وأخرج نحوه من قول عامر بن عبد الله، وغيره (وهذه رخصة، وإلا فالكمال) عند أهل العزيمة (الاحتراز عن الفعل) في الصلاة [ ص: 306 ] (وإن قل) ، كما تقدم عن صاحب العوارف (ولذلك كان بعضهم) من السلف (لا يطرد الذباب) عنه وهو في الصلاة (و) لما سئل عن ذلك (قال: لا أعود نفسي ذلك، فتفسد علي صلاتي) ، أي: بتوالي الحركات (وقد سمعت أن الفساق) ، والسراق (يضربون بين يدي الملوك) بالسياط، إما حدا، أو تأديبا (فيصبرون على أذى كثير) من الضرب (ولا يتحركون) ، أي: فهلا يكون العبد بين يدي ملك الملوك في حال مناجاته كذلك، وهذا القول نقله صاحب القوت، والعوارف (ومهما تثاءب) ، فلا يكره له تغطية الفم، وقد سبق أن تغطية الفم مكروه؛ لما رواه أبو داود، والحاكم، عن أبي هريرة: نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه، وصححه الحاكم؛ أي: لغير عذر؛ ولذا قال المصنف: (فلا بأس أن يضع يده) ، أو كمه (على فيه، فهو الأولى) ؛ لما رواه الترمذي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: إن التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع، وفي رواية له: فليضع يده على فيه. ثم إن الأدب عند التثاؤب أن يكظم إن قدر لهذا الحديث، ولما رواه مسلم: إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، فإن الشيطان يدخل في فيه. وهذا سبب كراهته، وهو دليل الغفلة، والكسل، وكذلك التمطي، وقد نهي عنه أيضا لذلك .

(وإن عطس) في الصلاة (حمد الله في نفسه، ولم يحرك لسانه) ، وهكذا نقله أصحابنا، عن الإمام أبي حنيفة أنه إذا حمد في نفسه من غير أن يحرك شفتيه لا تفسد، وظاهر المذهب أنه ولو قال بلسانه لا تفسد؛ لأنه لم يتغير بعزيمته عن كونه ثناء، ولا خطاب فيه، ولكن الأولى إن لم يسكت يحمد في نفسه، ولو عطس رجل آخر، فقال المصلي: الحمد لله. يريد استفهامه، فقال محمد: لا تفسد، وإن أراد به الجواب. وعن أبي حنيفة تفسد، كذا في القنية، ومشى صاحب الهداية على قول محمد؛ لأنه لم يتعارف جوابا، وأما لو قال المصلي للعاطس: يرحمك الله، فإنها تفسد بالاتفاق، إلا رواية شاذة عن أبي يوسف لحديث معاوية بن الحكم: ولو عطس في الصلاة، فقال له آخر: يرحمك الله، فقال: المصلي العاطس: آمين تفسد؛ لأنه إجابة، ولو كان بجنب المصلي العاطس رجل آخر يصلي، فلما عطس المصلي، فقال له رجل: ليس في الصلاة يرحمك الله، فقال المصليان: آمين، فسدت صلاة العاطس؛ لأنه إجابة، ولا تفسد صلاة غير العاطس؛ لأن تأمينه ليس بجواب، كذا في فتاوى قاضيخان (وإن تجشأ) بأن يصوت مع ريح يحصل من الفم عند حصول الشبع، فليدفعه عنه مهما قدر، فإنه مكروه، فإن لم يقدر (فينبغي أن لا يرفع رأسه إلى السماء) ، فإن فيه قلة الأدب في حضرة الله تعالى؛ أي: فليصوب رأسه إلى تحت .




الخدمات العلمية