الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
مسألة .

الوسوسة في نية الصلاة سببها خبل في العقل أو جهل بالشرع لأن امتثال أمر الله عز وجل مثل امتثال أمر غيره ، وتعظيمه كتعظيم غيره في حق القصد .

ومن دخل عليه عالم فقام له فلو قال : نويت أن أنتصب قائما تعظيما لدخول زيد الفاضل لأجل فضله مقبلا عليه بوجهي كان سفها في عقله بل كما يراه ويعلم فضله تنبعث داعية التعظيم فتقيمه ويكون معظما إلا إذا قام لشغل آخر أو في غفلة .

واشتراط كون الصلاة ظهرا أداء فرضا في كونه امتثالا كاشتراط كون القيام مقرونا بالدخول مع الإقبال بالوجه على الداخل وانتفاء ، باعث آخر سواه .

وقصد التعظيم به ليكون تعظيما .

فإنه لو قام مدبرا عنه أو صبر فقام بعد ذلك بمدة لم يكن معظما .

ثم هذه الصفات لا بد وأن تكون معلومة وأن تكون مقصودة ثم لا يطول حضورها في النفس في لحظة واحدة وإنما يطول نظم الألفاظ الدالة عليها إما تلفظا باللسان ، وإما تفكرا بالقلب .

[ ص: 321 ]

التالي السابق


[ ص: 321 ] (مسألة)

تاسعة: في بيان الدواء النافع للوسوسة في نية الصلاة.

قال - رحمه الله تعالى - : (الوسوسة) ، وهي الخطرة الرديئة، وقد وسوس الشيطان له وإليه، وصاحبها موسوس، فإن بني للمفعول قيل: موسوس عليه مثل المغضوب عليهم، ويقال لما يخطر بالقلب من شر ولا خير فيه وسواس، والجمع وساوس، وهي أكثر ما تعرض للمتعبدين في الطهارة، و (في نية الصلاة) عند إقبالهم إليها، ووقوفهم لها (وسببها إما خبل) بالتحريك، هو فساد يلحق الإنسان (في العقل) ، فيورثه اضطرابا كالجنون (أو جهل بالشرع) ، أي: بمحاسنه، ولطائفه، أو بقواعده وأحكامه (لأن امتثال أمر الله - عز وجل - مثل امتثال غيره، وتعظيمه) تعالى (كتعظيم غيره في حق القصد) ، وهذا ضربه مثلا للبيان أو التفهيم، وإن كان بين الامتثالين والتعظيمين بون لا يخفى (ومن دخل عليه عالم) مثلا (فقام له) إجلالا (فلو قال: نويت أن أنتصب قائما تعظيما لدخول زيد الفاضل) مثلا (لأجل فضله) ، وعلمه وشهرته (متصلا بدخوله) علي (مقبلا عليه بوجهي) صارفا إليه خواطري (سفه في عقله) ، أي: نسب هذا القائل إلى خفة في العقل (بل كما يراه) بعينه، ويشاهده ببصره (ويعلم فضله) الذي قام به (تنبعث داعية التعظيم) له من غير تكلف استحضار شيء مما تقدم (فتقيمه) عن موضعه منتصبا (ويكون) بهذه الحال (معظما) له (إلا إذا قام لشغل آخر) غير لقاء هذا الفاضل، أو كان (في غفلة) عن وروده (واشتراط كون الصلاة ظهرا) لا عصرا (أداء) لا قضاء (فرضا) لا نفلا (في كونه امتثالا) لله تعالى فيما أمر (كاشتراط كون القيام مقرونا بالدخول مع الإقبال بالوجه على الداخل، فانتفى باعث آخر) .

وفي بعض النسخ: بانتفاء باعث آخر (سواه، وقصد التعظيم به ليكون تعظيما، فإنه لو قام مدبرا عنه) بوجهه (أو صبر) ومكث في موضعه يسيرا (فقام بعد ذلك بمدة لم يكن معظما) لفوات قرائن التعظيم (ثم هذه الصفات) المذكورة (لا بد أن تكون معلومة) له في الذهن (وأن تكون مقصودة) قصدا حقيقيا (ثم لا يطول حضورها في النفس في لحظة واحدة) لتواردها معا (وإنما يطول نظم الألفاظ الدالة عليها) ، أي: على تلك المعاني، والمقصود، وذلك (إما تلفظا باللسان، وإما تفكرا بالقلب) ، والنية عمل القلب لا عمل اللسان، وحضور تلك المعاني في القلب من غير احتياج إلى التلفظ أفضل وأحسن، وحضورها بالتكلم باللسان إذا تعسر بدونه حسن، والاكتفاء بمجرد التكلم من غير حضورها رخصة عند الضرورة، وعدم القدرة على استحضارها، والاكتفاء بعمل القلب هو المعروف من سيرة السلف الماضين؛ ولذا جوز أصحابنا الصلاة بنية متقدمة إذا لم يفصل بينها وبين التكبير عمل ليس للصلاة .

قال الناطفي في الأجناس: من خرج من منزله يريد الفرض بالجماعة، فلما انتهى إلى الإمام كبر، ولم تحضره النية في تلك الساعة إن كان بحال لو قيل له: أي صلاة تصلي؟ أمكنه أن يجيب من غير تأمل تجوز صلاته، وإلا فلا، وهذا هو المروي عن محمد بن سلمة.

وفي الفتاوى عن محمد أنه لو نوى عند الوضوء أنه يصلي الظهر أو العصر مع الإمام، ولم يشتغل بعد النية بما ليس من جنس الصلاة يعني سوى المشي، إلا أنه لما انتهى إلى مكان الصلاة لم تحضره النية جازت صلاته بتلك النية. هكذا روي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف. اهـ .

ولكن الأحوط مقارنة النية للعبادة، وأن تكون موجودة عند التكبير خروجا من الخلاف، فإن الإمام الشافعي يجعل وجودها زمن التكبير شرطا كما تقدم، ثم من شرط ذلك زاد بأنه لا بد من التلفظ باللسان حتى يكون مطابقا مع القلب، ولا بد من استحضار أركان تلك الصلاة المؤداة بتمامها حتى شدات الفاتحة؛ بحيث لو شذ عن ذهنه شيء من ذلك لم تصح نيته، وهذا هو الذي اعتمده الرملي في شرحه على المنهاج، واقتفاه المتأخرون وجعلوا ما سوى ذلك غير المعتمد، وكنت أحب أن يجعل هذه التقييدات للخاصة من أهل العلم، فإنهم يقدرون على استحضار تلك المعاني أجمعها في أذهانهم في لحظة واحدة، ويغلب عليهم هيبة القيام إلى الصلاة، وجلالة من يناجونه، فتندفع الخواطر، ويتوجه القلب مرة واحدة، وأما العامة، فيصعب عليهم تلك الحالة، ويقعون في أمور توجب عدم اللحوق مع الإمام، وربما قرأ القرآن في قيامه، ولم ينصت المقتدي له؛ لأنه [ ص: 322 ] بعد مشغول بالنية، بل ربما ركع الإمام وهو بعد لم يأت بالنية تكلفا لاستحضار تلك المعاني، وقد تتحكم هذه الحالة فيه فيتردد ويقول: الله أكبر. ويمده، وقد تعتريه حالة الشك ثم يعود إلى النية، وقد يفضي إلى رفع صوت بالتكبير ولا يبالي هل إمامه قرأ أو ركع أو سجد، ومنهم من يستحكم فيه ذلك فتفوته الركعة بتمامها، وكل هذا مثار للوسواس المنهي عنه .

وقد شاهدت ذلك في سنة 1178 حين نزلت إلى ثغر دمياط لزيارة الشهداء، فأمسيت إلى قرية على البحر ودخلت جامعها الأعظم، وحضرت العشاء فتقدم الإمام فرأيت من المصلين في أمر النية عجبا، وغالبهم لم يحصل مع الإمام إلا بعض الصلاة، فسألت عن مذهبهم، فقالوا: شافعية، فقلت لهم: ما بالكم تفعلون هكذا في النية؟ فقالوا: هكذا أفتى به الرملي. وذكر لنا مشايخنا، فقلت لهم: فإذا كنتم شافعية، فما بال إمامكم لا يسكت السكتات المسنونة حتى يلحق المؤتم قراءة الفاتحة؟ واعجبا! اتبعتم الرملي في حضور النية، وخالفتموه في غيرها! فلم يجدوا جوابا، ورأيت الغالب فيهم العوام وأهل التكسب والتجار .

ومن طالع سيرة السلف عرف أنهم كانوا يتساهلون في مثل هذا ويعتمدون على توجه القلب، كما سيأتي للمصنف، ولا تظنن أن هذه الحالة صارت عادة للعوام فقط، بل سرت هذه الحالة لبعض الخواص ممن يعتد به ويشار إليه بالعلم والفضل والصلاح والشهرة، فتراهم يتعبون ويتكلفون لهذا الاستحضار تكلفا شديدا، كل على قدر معرفته ومقامه، ومنهم من يغيب عن حواسه حتى يعرق جبينه، ومنهم من يحم فهم يدفعون عن أنفسهم ما يطرأ مما يخالف القصد الباطن، وهذا في الخواص لا ينكر فإنهم يطالعون جلال الملكوت الأعلى، ولكن ليس للعوام تقليدهم في هذه المقامات .




الخدمات العلمية