الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القسم الثالث .

ما يتكرر بتكرر السنين .

وهي أربعة : صلاة العيدين والتراويح ، وصلاة رجب وشعبان .

. الأولى صلاة العيدين .

وهي سنة مؤكدة وشعار من شعائر الدين .

التالي السابق


( القسم الثالث ما يتكرر السنين، وهي أربع: صلاة العيدين) الفطر والأضحى، ( و) صلاة ( التراويح، وصلاة) شهر ( رجب) المسماة بصلاة الرغائب، ( وصلاة النصف من شعبان. الأولى صلاة العيدين) اعلم أن العيد بالكسر أصله، وارى من العود اسم للموسم سمي به؛ لأنه يعود في كل سنة، والجمع أعياد على لفظ الواحد؛ فرقا بينه وبين أعواد الخشب .

وقيل: للزوم الياء في الواحد. هذا قول أهل اللغة، وقيل: سمي به؛ لأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان إلى عباده دينية ودنيوية، وإلى هذا لحظ الشيخ الأكبر قدس سره فقال في كتاب الشريعة والحقيقة: هما يوما سرور: عيد الفطر لفرحته بفطره، فيعجل بالصلاة للقاء ربه؛ فإن المصلي يناجي ربه، قال صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه"، وأراد أن يعجل بحصول الفرحتين، فشرعت صلاة عيد الفطر، وحرم عليه صوم ذلك اليوم ليكون في فطره مأجورا أجر الفرائض في عبودية الاضطرار لتكون المثوبة عظيمة القدر، وفي صلاة عيد الأضحى مثل ذلك لصيامه يوم عرفة في حق من صامه، فإنه صوم مرغب فيه في غير عرفة، وحرم عليه صوم يوم الأضحى ليؤجر أجر الواجبات؛ فإنها من أعظم الأجور، ولما كان يوم زينته، وشغل بأحوال النفوس من أكل وشرب وبعال، شرع في حق من ليس بحاج في ذلك اليوم أن يستفتح يومه بالصلاة بمناجاة ربه ليحفظه سائر يومه؛ فإن الصلاة في ذلك اليوم في أول النهار كالنية في الصلاة، فكما أن النية تحفظ عليه هذه العبادة، وإن صحبته الغفلة في أثناء صلاته فالنية تجبر له ذلك؛ فإنها تعلقت عند وجودها بكمال الصلاة، فحكمها سار في الصلاة، وإن غفل المصلي كذلك الصلاة في يوم العيد تقوم مقام النية، واليوم يقوم مقام الصلاة، فما كان [ ص: 383 ] في ذلك اليوم من الإنسان من لهو ولعب، وفعل مباح، فهو في حفظ صلاته إلى آخر يومه؛ ولهذا سميت صلاة العيد؛ أي: تعود عليه في كل فعل يفعله من المباحات بالأجر الذي يكون للمصلي في حال صلاته، وإن غفل لصحة نيته؛ ولهذا حرم عليه الصوم فيه تشبها بتكبيرة الإحرام، وليقابل به نية الصوم في حال وجوب الصوم، فيكون في نظره صاحب فريضة، كما كان في صومه في رمضان صاحب فريضة، فجميع ما يفعله من المباحات في ذلك اليوم مثل سنن الصلاة في الصلاة، وجميع ما يفعله من الفرائض في ذلك اليوم، والواجبات من جميع العبادات بمنزلة الأركان في الصلاة، فلا يزال العبد في يوم العيدين حاله في أفعاله حال المصلي؛ فلهذا قلنا: سميت صلاة العيد بخلاف ما يقول غيرنا من أنه سمي بذلك؛ لأنه يعود في كل سنة، فهذه الصلوات الخمس تعود في كل يوم، ولا تسمى صلاة عيد. فإن قيل: لارتباطه بالزينة قلنا: والزينة مشروعة في الصلاة، قال تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد فلما عاد الفطر عبادة مفروضة سمي عيدا وعاد ما كان مباحا واجبا. اهـ .

وهذا الذي ذكره الشيخ قدس سره بحسب ما أعطاه المقام وإلا فالمعروف عند أهل المعرفة باللسان العربي هو ما قدمناه، ولا مانع من أن يلاحظ فيه المعنيان؛ إذ لا منافاة بين عود نظيره في كل سنة، وعود ما كان مباحا واجبا فيه؛ فافهمه، فإنه دقيق .

( وهي) أي صلاة العيد ( سنة مؤكدة) على الصحيح المنصوص كما في الروضة وفي المحرر على أظهر الوجهين؛ لأنها صلاة ذات ركوع وسجود، وفي الوجه الثاني فرض كفاية ( و) هي ( شعار من شعائر الإسلام) ، وأول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر من السنة الثانية من الهجرة، ثم واظب على صلاة العيدين حتى فارق الدنيا، ففي تركها تهاون، فعلى هذا لو تركها أهل بلدة قوتلوا؛ أي: على القول بأنها فرض كفاية، وعلى الأول في مقاتلتهم وجهان: الأصح: لم يقاتلوا كذا في الشرح المحرر، وفي سنن أبي داود عن أنس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قيل: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى، ويوم الفطر. وقال الرافعي في الشرح: ولم يصلها يعني النبي صلى الله عليه وسلم بمنى؛ لأنه كان مسافرا، كما لم يصل الجمعة، قالالحافظ ابن حجر : لم أره في حديث، وكأنه مأخوذ بالاستقراء، وقد احتج أبو عوانة في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد، بمعنى بحديث جابر الطويل، قال فيه أنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم أتى المنحر فنحر، ولم يذكر الصلاة، وذكر المحب الطبري، عن إمام الحرمين أنه قال: يصلي بمنى، وكذا ذكره ابن حزم في حجة الوداع، واستنكر ذلك منه، وقال في الشرح المحرر: والأصل في مشروعيتها الكتاب، وهو قوله تعالى: فصل لربك وانحر وقوله تعالى: وذكر اسم ربه فصلى ، والسنة والإجماع المتواتر على فعلها .



( فصل)

وقال أصحابنا: صلاة العيدين واجبة على من تجب عليه الجمعة نصا عن أبي حنيفة، في روايته على الأصح، وبه قال الأكثرون، وهو المذهب، ونقل ابن هبيرة في الإفصاح رواية ثانية عن الإمام بأنها سنة. اهـ .

قلت: وتسمية محمد إياها في الجامع الصغير سنة؛ حيث قال: عيدان اجتمعا في يوم واحد: الأول سنة، والثاني: فريضة. ولا يترك واحد منهما لكونها وجبت بالسنة، ألا يرى إلى قوله: ولا يترك واحد منهما، فإنه أخبر بعدم الترك، والأخبار في عبارات الأئمة والمشايخ بذلك يفيد الوجوب، والدليل على وجوبها إشارة الكتاب ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم وقوله تعالى: فصل لربك وانحر فإن في الأول إشارة إلى صلاة عيد الفطر، وفي الثاني إشارة إلى صلاة عيد النحر. والسنة وهو ما ثبت بالنقل المستفيض عنه صلى الله عليه وسلم أنه واظب عليهما من ترك، وهو دليل الوجوب، وكذا عمل الخلفاء الراشدين من بعده من غير ترك، وقال مالك والشافعي: سنة مؤكدة، واستدلا بحديث الأعرابي في الصحيحين: هل علي غيرها قال: لا إلا أن تطوع، وأجاب أصحابنا عن هذا الحديث أنه لا ينافي الوجوب عندنا؛ لأن الأعرابي لا تجب عليه؛ إذ من شرائطها المصرفان .

قلت: نقل المزني في المختصر، عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من وجب عليه [ ص: 384 ] حضور الجمعة وجب عليه حضور العيد، فهذا يدل على الوجوب، وقد أجاب أصحابه عن هذا بأجوبة منها: أنه محمول على التأكيد؛ نقله القسطلاني في شرح البخاري، ومنها أنه مؤول بمن وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حضور العيد سنة، والوجوب بمعنى الثبوت، أي: ثبت عليه، وقيل: مؤول بمن وجب عليه حضور الجمعة عينا وجب عليه حضور العيد كفاية، وعلى التقديرين الأولين ذكر الوجوب للمشاكلة، والتأويلان الأولان ذكرهما شارح المحرر، وقال أحمد وجماعة: هي فرض كفاية إذا قام بها قوم سقطت عن الباقين كالجهاد والصلاة على الجنائز، نقله ابن هبيرة في الإفصاح، وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي كما تقدم، وقال أصحاب أحمد: لما كان قوله تعالى: فصل لربك وانحر دالا على الوجوب، وحديث الأعرابي دالا على عدم وجوبها على أحد، فتعين أن يكون فرضا على الكفاية، وقد نازعهم الشمس البساطي من أئمة المالكيين في ذلك فقال: لا نسلم أن المراد بقوله: فصل لربك وانحر صلاة العيد سلمنا ذلك، لكن ظاهره يقتضي وجوب النحر، وأنتم لا تقولون به، سلمنا أن المراد بالنحر ما هو أعم، لكن وجوبه خاص به، فيختص وجوب صلاة العيد به، سلمنا الكل وهو أن الأمر الأول غير خاص به، والأمر الثاني خاص، لكن لا نسلم أن الأمر الأول للوجوب على الندب جمعا بينه وبين الأحاديث الأخر، سلمنا جميع ذلك، لكن صيغة فصل خاصة به، فإن حملت عليه وأمته، وجب إدخال الجميع، فلما دل الدليل على إخراج بعضهم كما زعمتم كان قادحا في القياس .



( تنبيه) :

قال أصحابنا: ويشترط لها جميعا ما يشترط للمجمعة وجوبا وأداء إلا الخطبة؛ فإنها ليست بشرط لها، بل هي سنة بعدها للنقل المستفيض بذلك، وأجاز مالك والشافعي أن يصليها منفردا من شاء من الرجال والنساء، وعن أحمد روايتان الأولى مثل قول أصحابنا إلا أنه لم يشترط المصر، والثانية مثل قول مالك والشافعي .



الخدمات العلمية