الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويكبر عقيب الصلوات المفروضة وعقيب النوافل وهو عقيب الفرائض آكد .

التالي السابق


( ويكبر عقيب الصلوات المفروضة) فلو فاتته فريضة في هذه الأيام فقضاها في غيرها لم يكبر، ولو فاتته في غير هذه الأيام أو فيها فقضاها فيها كبر على الأظهر .

( و) يكبر ( عقيب) النوافل الثابتة، ومنها صلاة عيد الأضحى، وعقيب النافلة المطلقة، وعقيب الجنازة على المذهب في الجميع .

( وهو عقيب الفرائض آكد) فعلم أنه يكبر عقب كل صلاة مفعولة في هذه الأيام، وهو الأصح من أربعة أوجه، والثاني يختص بالفرائض المفعولة فيها مؤداة كانت أو مقضية، والثالث يختص بفرائضها مقضية كانت أو مؤداة، والرابع لا يكبر إلا عقب [ ص: 387 ] مؤداتها، والسنن الراتبة، ولو نسي التكبير خلف الصلاة فتذكر، والفصل قريب كبر، وإن فارق مصلاه فلو طال الفصل كبر أيضا على الأصح، والمسبوق إنما يكبر إذا أتم صلاة نفسه. قال إمام الحرمين : وجميع ما ذكرناه هو في التكبير الذي يرفع به صوته، ويجعله لله تعالى، أما لو استغرق عمره بالتكبير في نفسه فلا مانع فيه. نقله الرافعي والنووي .


( فصل)

وقال أصحابنا: لا يكبر إلا عقيب المكتوبات، لا عقيب الواجب كالوتر وصلاة العيد، ولا عقيب النوافل، ولا يجب على المنفرد، ولا على المعذورين الذين صلوا الظهر يوم الجمعة بجماعة، ولا على أهل القرى، وعند أبي يوسف ومحمد يجب التكبير على كل من يصلي المكتوبة؛ لأنه تبع لها، ولأبي حنيفة أن الجهر بالتكبير خلاف السنة، والشرع ورد به عند استجماع هذه الشرائط فيقتصر إلا أن بالاقتداء يجب بطريق التبعية .



( فصل)

وقال أصحابنا: أيضا يستحب التكبير جهرا في طريق المصلى يوم الأضحى اتفاقا للإجماع. وأما يوم الفطر فقال أبو حنيفة : لا يجهر به، وقال صاحباه: يجهر. وحكى الطحاوي قولا عن الإمام أنه يجهر أيضا في يوم الفطر اعتبارا بالأضحى، ولكن المشهور في المذهب الأول، ونقل ابن هبيرة في الإفصاح ما نصه: ثم اختلفوا في التكبير لعيد الفطر فقالوا كلهم: يكبر فيه إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا يكبر له، ثم قال: والصحيح أن التكبير فيه آكد من غيره؛ لقوله عز وجل: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون . اهـ .

قلت: وفي هذا نظر فإن أبا حنيفة لا يمنع التكبير في عيد الفطر كما دل صريح نفيه، وإنما يقول فيه سرا، وفي الأضحى جهرا، على أنه روي عنه الجهر فيه أيضا كما قدمنا عن الطحاوي، وهذه كتب المذهب مشحونة بما ذكرنا على أن أبا حنيفة يقول: إن رفع الصوت بالذكر بدعة مخالف للأمر في قوله تعالى: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول إلا ما اختص بالإجماع، وقد يجاب عن الآية بأنها تحتمل أن يراد بها التكبير في الصلاة، أو يراد بها نفس الصلاة، والتكبير بمعنى التعظيم، والدليل إذا تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال، وأيضا الاستدلال بها يبنى على أن الواو تقتضي الترتيب، وهو ممنوع على أن الآية لا دلالة فيها على الجهر .

وأبو حنيفة لا يمنع التكبير مطلقا، وإنما يمنع الجهر به، وأما كونه في عيد الفطر آكد فقد تقدم عن الشافعي فيه قولان: قديم: أن الأضحى آكد، وجديد بعكسه، ومما استدل به الصاحبان أيضا ما رواه الدارقطني من طريق سالم أن عبد الله بن عمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى.

والجواب من قبل أبي حنيفة عن هذا الحديث أنه ضعيف، في إسناده أبو الطاهر موسى بن محمد بن عطاء المقدسي، ويعرف بالبطقاوي، قال الذهبي في الديوان: كذاب، ثم ليس فيه أيضا ما يدل على أنه كان يجهر به. نعم؛ روى الدارقطني عن نافع أن ابن عمر كان إذا غدا يوم الفطر، ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي الإمام، وقال البيهقي : الصحيح وقفه على ابن عمر ، وهو قول صحابي قد عارضه قول صحابي آخر؛ روى ابن المنذر، عن ابن عباس أنه سمع الناس يكبرون فقال لقائده: أكبر الإمام؟ قال: لا. قال: أجن الناس؟! أدركنا مثل هذا اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان أحد يكبر قبل الإمام.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة قال: كنت أقود ابن عباس يوم العيد، فسمع الناس يكبرون، فقال: ما شأن الناس؟ قلت: يكبرون. قال: كبر الإمام؟ قلت: لا. قال أمجانين الناس؟!

فيبقى مفاد الآية فلا معارض، على أن قول الصحابي لا يعارضه هذا، والذي ينبغي أن يكون الخلاف في استحباب الجهر وعدمه، لا في كراهته وعدمها، فعندهما يستحب، وعنده الإخفاء أفضل؛ وذلك لأن الجهر قد نقل عن كثير من السلف كابن عمر، وعلي، وأبي أمامة، والنخعي، وابن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وأبان بن عثمان، والحكم، وحماد، ومالك، وأحمد، وأبي ثور، ومثله عن الشافعي؛ ذكره ابن المنذر في الإشراف .

وروى ابن أبي شيبة في المصنف، عن أكثر هؤلاء، وعن أبي قتادة وأبي عبد الرحمن، وعطاء، وعروة، والزهري، على أن في سياق [ ص: 388 ] أكثر هؤلاء مطلق التكبير دون التقييد بالجهر، وروى عدم التكبير عن جماعة آخرين منهم ابن معقل، وقال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش قال: كنت أخرج مع أصحابنا إبراهيم وخيثمة وأبي صالح يوم العيد فلا يكبرون، ولا يخفى أن مثل هذا يحمل على التكبير سرا، والمعنى لا يجهرون به، والله أعلم .

وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني من أصحابنا: والذي عندنا أنه لا ينبغي أن تمنع العامة عن الجهر بالتكبير لقلة رغبتهم في الخير، وبه نأخذ، يعني أنهم إذا منعوا من الجهر به لا يفعلونه سرا فينقطعون عن الخير، بخلاف العالم الذي يعلم أن الإسرار به أفضل .



( تنبيه) :

أخرج البيهقي في السنن بسنده عن القطان، عن ابن عجلان، حدثني نافع، أن ابن عمر كان يغدو إلى العيد من المسجد، وكان يرفع صوته بالتكبير، ثم قال: ورواه ابن إدريس، عن ابن عجلان، وقال: يوم الفطر والأضحى .

قلت: أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن إدريس بخلاف هذا، فقال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن عجلان بسنده، ولفظه أنه كان يغدو يوم العيد ويكبر ويرفع صوته حتى يبلغ الإمام.



( تنبيه) آخر:

قال الرافعي : يستوي في التكبير المرسل، والمقيد المنفرد، والمصلي جماعة، والرجل، والمرأة، والمقيم، والمسافر، قال النووي : لو كبر الإمام خلاف اعتقاد المأموم، فكبر من يوم عرفة، والمأموم لا يرى التكبير فيه أو عكسه، هل يوافقه في التكبير وتركه أم يتبع اعتقاد نفسه؟ وجهان، الأصح اعتقاد نفسه بخلاف ما تقدم في تكبير نفس الصلاة. اهـ .

قلت: تقدم أن أصحابنا لا يرون التكبير على المنفرد، ولا على المرأة، ولا على المسافر، فإن التكبير تابع لصلاة العيد، وهي عندنا تجب على من تجب عليه الجمعة بشرائطها المتقدمة في الجمعة سوى الخطبة؛ لأنها لما أخرت عن الصلاة لم تكن شرطا لها، فبقيت وعظا كما في سائر الأوقات، فكانت الخطبة سنة .




الخدمات العلمية