الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وهذا لأن الرياء والتصنع ربما يتطرق إليه في الجمع ويأمن منه في الوحدة فهذا ما قيل فيه .

والمختار أن الجماعة أفضل كما رآه عمر رضي الله عنه .

فإن بعض النوافل قد شرعت فيها الجماعة ، وهذا جدير بأن يكون من الشعائر التي تظهر .

وأما الالتفات إلى الرياء في الجمع ، والكسل في الانفراد عدول عن مقصود النظر في فضيلة الجمع من حيث إنه جماعة ، وكأن قائله يقول : الصلاة خير من تركها بالكسل والإخلاص خير من الرياء .

فلنفرض المسألة فيمن يثق بنفسه أنه لا يكسل لو انفرد ولا يرائي لو حضر الجمع فأيهما أفضل له ؟ فيدور النظر بين بركة الجمع ، وبين مزيد قوة الإخلاص وحضور القلب في الوحدة ، فيجوز أن يكون في تفضيل أحدهما على الآخر تردد ومما يستحب القنوت في الوتر في النصف الأخير من رمضان .

التالي السابق


( وهذا لأن الرياء والتصنع ربما [ ص: 420 ] يتطرق إليه في الجمع) ؛ حيث يرونه، ( ويأمنه في الوحدة) ؛ إذ ليس عند أحد يتصنع له أو يرائيه، ( فهذا ما قيل فيه) أي: في الانفراد. وبه قال مالك، وأبو يوسف، وحكاه ابن عبد البر عن الشافعي . وروى ابن أبي شيبة في مصنفه، عن ابن عمر ، وابنيه سالم، والقاسم بن محمد، وعلقمة، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري ( والمختار أن الجماعة أفضل) ، وهو الأظهر، والأصح في المذهب كما تقدم، وبه قال أبو حنيفة ، وأحمد، وبعض المالكية. وروى ابن أبي شيبة فعله عن علي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وسويد بن غفلة، وزاذان، وأبي البختري. واستمر عليه عمل الصحابة، وسائر المسلمين، وصار من الشعائر الظاهرة كصلاة العيد .

وفي الروضة: قال العراقيون والصيدلاني وغيرهم: الخلاف فيمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل عنها، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه؛ فإن فقد بعض هذا؛ فالجماعة أفضل قطعا، وأطلق جماعة ثلاثة أوجه ثالثها هذا الفرق. اهـ .

وقد أشار المصنف إلى هذا بذكر واحد من الثلاثة، فقال: ( كما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فإن بعض النوافل قد شرع فيها الجماعة، وهذا جدير بأن يكون من الشعائر التي تظهر، وأما الالتفات إلى الرياء في الجمع، والكسل في الانفراد فعدول عن) طريق ( مقصود النظر في فضيلة الجمع من حيث إنه جماعة، وكأن قائله يقول: الصلاة خير من تركها بالكلية) كذا في النسخ، وفي بعضها بالكسل، وهو الصواب ( والإخلاص خير من الرياء، فلنفرض المسألة) ونقدرها ( فيمن يثق بنفسه أنه لا يكسل لو انفرد) عن الناس ( ولا يرائي لو حضر الجمع فأيهما أفضل؟ فيدور النظر بين بركة الجمع، وبين مزيد قوة الإخلاص وحضور القلب) بالخشوع ( في) حال ( الوحدة، فيجوز أن يكون في تفضيل أحدهما على الآخر تردد) ووجد هنا في بعض النسخ زيادة؛ وهو قوله ( ومما يستحب القنوت في الوتر من النصف الأخير من رمضان) . وبه قال جمهور الأصحاب، وظاهر نص الشافعي كراهة القنوت في غير هذا النصف. وحكى الزبيري، وأبو الوليد، وابن عبدان، وابن مهران استحبابه في جميع السنة. وحكى الروياني وجها في جوازه في جميع السنة بلا كراهة، ويسجد للسهو بتركه في غير النصف، وهذا اختيار مشايخ طبرستان، واستحسنه، وقد تقدم ذلك، ولفظ القنوت هو ما تقدم في قنوت الصبح، وتقدمت الإشارة إليه في باب الوتر، والله أعلم .



( فصل) في فوائد منثورة ومسائل تتعلق بالباب:

الأولى: قال أصحابنا: يستحب الجلوس بعد كل أربع ركعات منها بقدرها، وكذا بين الترويحة الخامسة والوتر؛ لأنه المتوارث من السلف، وهكذا روي عن أبي حنيفة، ثم هم مخيرون في حالة الجلوس بين التسبيح والقراءة، وصلاة أربع فرادى والسكون، وأهل مكة يطوفون أسبوعا، ويصلون ركعتين، وأهل المدينة يصلون أربع ركعات فرادى .

ونقل السروجي في شرح الهداية عن خزانة الفقه كراهة الصلاة منه منفردا بين كل شفعين، واختار بعض أصحابنا في التسبيحات: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والعظمة والهيبة والكبرياء والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ثلاث مرات عقب كل ترويحة، وعليه العمل في بخارى ونواحيها، واختار بعضهم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، ثلاثا. واختار بعضهم قراءة سورة الإخلاص ثلاثا، واختار بعضهم في أول الأولى ذكر الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الأولى ذكر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبعد الثانية ذكر سيدنا عمر رضي الله عنه، وبعد الثالثة ذكر سيدنا عثمان رضي الله عنه، وبعد الرابعة ذكر سيدنا علي رضي الله عنه، وبعد الخامسة الكلمات المؤذنة بالاختتام، كل ذلك بألفاظ متنوعة منتظمة مع بعضها، وعلى هذا جرت عادة أهل مصر غالبا، واختار مشايخنا السادة النقشبندية التحلق بعد كل ترويحة للمراقبة بين يدي شيخهم قدر مضي خمس درج أو أكثر، وذلك بعد إتيان التسبيح المذكور ثلاث مرات، ثم يقومون إلى الترويحة الأخرى، وهذا أحسن ما رأيناه .



الثانية: يسن ختم القرآن فيها مرة في الشهر على الصحيح، وهو قول الأكثر؛ رواه الحسن عن أبي حنيفة، يقرأ الإمام في كل ركعة عشر آيات أو نحوها؛ لأن عدد [ ص: 421 ] ركعاتها في جميع الشهر ستمائة ركعة، إن كان كاملا، وخمسمائة وثمانون إن كان ناقصا، وآي القرآن على ما ذكره المفسرون ستة آلاف وستمائة وستة وستون؛ فإذا قرأ في كل ركعة عشر آيات، وشيئا يحصل الختم فيه .

وقال بعضهم: يقرأ في كل ركعة ثلاثين آية؛ لأن عمر رضي الله عنه أمر بذلك، فيقع الختم ثلاث مرات؛ لأن كل عشر مخصوص بفضيلة على حدة، كما جاءت به السنة أنه شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار .

ومنهم من استحب الختم ليلة السابع والعشرين رجاء موافقة ليلة القدر. وروي عن أبي حنيفة أنه كان يختم إحدى وستين ختمة في كل يوم ختمة، وفي كل ليلة ختمة. وفي كل التراويح ختمة، وإن مال القوم قرأ قدر ما لا يؤدي إلى تنفيرهم على المختار؛ لأن تكثير القوم أفضل من تطويل القراءة، وأفتى المتأخرون بثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، أو آيتان متوسطتان .



الثالثة: قال أصحابنا: هذه الصلاة لا تقضى أصلا بفوتها عن وقتها لا منفردا ولا بجماعة على الأصح؛ لأن القضاء من خصائص الواجبات، وإن قضاها كان نفلا مستحبا لا تراويح .



الرابعة: قال الرافعي : ويدخل وقت التراويح بالفراغ من صلاة العشاء. اهـ .

وقال أصحابنا: ما بعد صلاة العشاء على الصحيح إلى طلوع الفجر، وقال جماعة من أصحابنا منهم إسماعيل الزاهد أن الليل كله وقت لها قبل العشاء، وبعده، وقبل الوتر، وبعده؛ لأنه قيام الليل. وقال عامة مشايخ بخارى: وقتها ما بين العشاء والوتر، وهو الصحيح حتى لو تبين فساد العشاء دون الوتر والتراويح، أعادوا العشاء ثم التراويح، دون الوتر عند أبي حنيفة؛ لأنها تبع للعشاء، فتكون التي فعلها بعد فساد العشاء نافلة مطلقة ليست واقعة عن التراويح؛ لكونها ليست في محلها فتعاد؛ أي: تصلى في موضعها كما في التبيين والهداية، والفتح والعناية .



الخامسة: قال أصحابنا: يصح تقديم الوتر على التراويح؛ لأنها تبع للعشاء لا الوتر، وكذا يصح تأخيره عنها، وهو الأفضل؛ فإذا قلنا بالتأخير فالاستحباب تأخيرها إلى قبيل ثلث الليل أو قبيل نصفه .

واختلفوا في أدائها بعد النصف، فقال بعضهم: يكره؛ لأنها تبع للعشاء؛ فصارت كسنة العشاء، وقال بعضهم: لا يكره تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل على الصحيح؛ لأنها وإن كانت تبعا للعشاء، لكنها صلاة الليل، والأفضل فيها آخره، ولكن الأحب أن لا يؤخرها إليه خشية الفوات .



السادسة: تقدم في الحديث السابق قول سيدنا عمر رضي الله عنه فيها: إنها نعم البدعة، وكذا عدها العز بن عبد السلام في البدع المستحبة؛ قال التقي السبكي: هو باعتبار المعنى اللغوي؛ فإن البدعة في اللغة هو الشيء الحادث، وأما في الشرع؛ فإذا أطلق إنما يراد الحادث الذي لا أصل له في الشرع، وقد يطلق مقيدا، فيقال: بدعة هدى، وبدعة ضلالة؛ فالتراويح على هذا من بدعة الهدى، وكيف يزيد عمر خلاف ذلك ويأمر بها، معاذ الله أن يأمر ببدعة! وهكذا مراد العز بن عبد السلام، فليس هنا من البدعة المقابلة للسنة في شيء على أني أقول إن عمر رضي الله عنه لم يشر إلى أصل التراويح، إنما أشار إلى ذلك الاجتماع الخاص الذي حدث في زمانه بأمره فهو بدعة باعتبار اللغة، وبدعة هدى. وأما أصل التراويح فلا يطلق عليها بدعة بشيء من الاعتبارين، ولا في كلام عمر ما يدل على ذلك، وابن عبد السلام إن أراد ما أراده عمر وافقناه عليه، وإلا خالفناه فيه، متمسكين بإطلاق العلماء من المذاهب الأربعة أن التراويح سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا سنة عمر، والله أعلم .



السابعة: تقدم نقل السبكي عن الطحاوي أنه قال: إن القيام بها جماعة واجب على الكفاية، وهذا فيه نظر، والذي ذكره صاحب الهداية من أصحابنا إنما هو السنة على الكفاية، وعبارته: والسنة فيها الجماعة، لكن على وجه الكفاية، حتى لو امتنع أهل المسجد عن إقامتها كانوا مسيئين، ولو أقامه البعض، فالمتخلف عن الجماعة تارك الفضيلة؛ لأن أفراد الصحابة رضي الله عنهم روي عنهم التخلف. اهـ .

ولكن كلام الليث بن سعد موافق لكلام الطحاوي؛ حيث قال: لو قام الناس في بيوتهم، ولم يقم أحد في المسجد لا ينبغي أن يخرجوا إليه حتى يقوموا فيه، فأما إذا كانت الجماعة قد قامت في المسجد فلا بأس أن يقوم الرجل لنفسه، ولأهل بيته في بيته. اهـ .



الثامنة: نقل الرافعي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: رأيت أهل المدينة [ ص: 422 ] يقومون بتسع وثلاثين منها ثلاث للوتر. ثم قال: قال أصحابنا: ليس لغير أهل المدينة ذلك. اهـ .

واختاره مالك، وقال أن عليه العمل بالمدينة، وفي مصنف ابن أبي شيبة ، عن داود بن قيس قال: أدركت الناس بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة، ويوترون بثلاث، وقال بعض أهل العلم، وإنما فعل هذا أهل المدينة؛ لأنهم أرادوا مساواة أهل مكة، فإن أهل مكة كانوا يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، فجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات .

قال الحليمي في المنهاج: فمن اقتدى بأهل مكة فقام بعشرين فحسن، ومن اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين فحسن أيضا؛ لأنهم إنما بما أرادوا بما صنعوا الاقتداء بأهل مكة في الاستكثار من الفضل لا المنافسة كما ظن بعض الناس قال: ومن اقتصر على عشرين، وقرأ فيها بما يقرؤة غيره في ست وثلاثين كان أفضل؛ لأن طول القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود .

قال الولي العراقي : ولما ولي والدي إمامة مسجد المدينة أحيا سنتهم في ذلك، مع مراعاة ما عليه الأكثر، فكان يصلي التراويح أول الليل بعشرين ركعة على المعتاد، ثم يقوم آخر الليل في المسجد بست عشرة ركعة فيختم في الجماعة في شهر رمضان ختمتين، واستمر على ذلك عمل أهل المدينة بعده، فهم عليه إلى الآن. اهـ .

وقال ابن قدامة في المغني: لو ثبت أن أهل المدينة كلهم فعلوا لكان ما فعله عمر، وأجمع عليه الصحابة في عصره أولى بالاتباع. اهـ .

وبالإجماع الذي وقع في زمن عمر أخذ أبو حنيفة ، والنووي، والشافعي، وأحمد، والجمهور، واختاره ابن عبد البر، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر، وعلي، وأبي بن كعب، وشكيل بن شكل، وأبي البختري، وابن أبي مليكة، والحارث الهمداني.



التاسعة: قال الشيخ الأكبر قدس سره في كتاب الشريعة والحقيقة: الصفة التي يقوم بها المصلي في صلاته في رمضان أشرف الصفات لشرف الاسم بشرف الزمان، فأقام الحق قيامه بالليل مقام صيامه بالنهار إلا في الفرضية رحمة بعبيده، وتخفيفا؛ ولهذا امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقومه بأصحابه؛ لئلا يفترض عليهم فلا يطيقوه، ولو فرض عليهم لم يثابروا عليه هذه المثابرة، ولا استعدوا له هذا الاستعداد، ثم الذين ثابروا عليه في العامة أشأم أداء لا يتمون ركوعه، ولا سجوده، ولا يذكرون الله فيه إلا قليلا، وما سنه من سنه على ما هم الناس عليه المتميزون من الخطباء، والفقهاء، وأئمة المساجد، وفي مثل صلاتهم فيه. قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: "ارجع فصل فإنك لم تصل". فمن عزم على قيام رمضان المسنون المرغب فيه، فليتم كما شرع الشارع الصلاة من الطمأنينة، والوقار، والتدبر، والتسبيح، وإلا فتركه أولى، والله أعلم .




الخدمات العلمية