الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
أما صلاة رجب .

فقد روي بإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من أحد يصوم أول خميس من رجب ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة اثنتي عشرة ركعة يفصل بين كل ركعتين بتسليمة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة وإنا أنزلناه في ليلة القدر ثلاث مرات وقل هو الله أحد اثنتي عشرة مرة فإذا فرغ من صلاته صلى علي سبعين مرة يقول اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آله ثم يسجد ويقول في سجوده سبعين مرة سبوح قدوس رب الملائكة والروح ثم يرفع رأسه ويقول سبعين مرة رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم ثم يسجد سجدة أخرى ويقول فيها مثل ما قال في السجدة الأولى ثم يسأل حاجته في سجوده فإنها تقضى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي أحد هذه الصلاة إلا غفر الله تعالى له جميع ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ، وعدد الرمل ، ووزن الجبال ، وورق الأشجار ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار فهذه صلاة مستحبة وإنما أوردناها في هذا القسم ؛ لأنها تتكرر بتكرر السنين ، وإن كانت رتبتها لا تبلغ رتبة التراويح ، وصلاة العيد ؛ لأن هذه الصلاة نقلها الآحاد ولكني رأيت أهل القدس بأجمعهم يواظبون عليها ، ولا يسمحون بتركها ، فأحببت إيرادها .

التالي السابق


( أما صلاة رجب) وهي المسماة بصلاة الرغائب ( فقد روي بإسناد) ، وذلك فيما أخبرناه عمر بن أحمد بن عقيل إجازة، عن عبد الله بن سالم، عن محمد بن العلاء الحافظ، عن علي بن يحيى، أخبرنا يوسف بن زكريا، عن أحمد بن محمد بن أبي بكر الواسطي، عن محمد بن محمد الميدومي، عن عبد اللطيف بن عبد المنعم، أخبرنا الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي، قال في كتاب الموضوعات: أخبرنا علي بن عبيد الله بن الزعفراني، أخبرنا أبو زيد عبد الله بن عبد الملك الأصبهاني، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده ح. وأخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، أنبأنا القاسم بن منده، أخبرنا الحسن بن علي بن عبد الله بن جهضم الصوفي، حدثنا علي بن محمد بن سعيد البصري، حدثنا أبي، حدثنا خلف بن عبد الله، وهو الصغاني، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي"، قيل: يا رسول الله ما معنى قولك: "رجب شهر الله"؟ قال: "لأنه مخصوص بالمغفرة"، وفيه تحقن الدماء، وفيه تاب الله على أنبيائه، وفيه أنقذ الله أولياءه من يد أعدائه، من صامه استوجب على الله ثلاثة أشياء: مغفرة لجميع ما سلف من ذنوبه، وعصمة فيما بقي من عمره، وأمانا من العطش يوم العرض الأكبر، فقام شيخ ضعيف فقال: يا رسول الله إني لأعجز عن صيامه كله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول يوم منه، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وأوسط يوم منه، وآخر يوم منه فإنك تعطى ثواب من صامه كله، لكن لا تغفلوا عن أول ليلة من رجب فإنها ليلة تسميها الملائكة الرغائب، وذلك إذا مضى ثلث [ ص: 423 ] الليل لا يبقى ملك مقرب في جميع السماوات والأرض إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها، فيطلع الله عز وجل عليهم اطلاعة فيقول: ملائكتي سلوني ما شئتم، فيقولون يا ربنا حاجتنا إليك أن تغفر لصوام رجب، فيقول الله عز وجل: قد فعلت ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: و ( ما من أحد يصوم) يوم الخميس ( أول خميس من رجب) ، وفي نسخة في رجب ( ثم يصلي) فيما ( بين العشاء) أي المغرب، وكانت تسمى العشاء الأولى ( والعتمة) يعني ليلة الجمعة ( اثنتي عشرة ركعة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، وإنا أنزلناه في ليلة القدر ثلاث مرات، وقل هو الله أحد، اثنتي عشرة مرة، فإذا فرغ من صلاته صلى على سبعين مرة يقول) هكذا في سائر نسخ الكتاب .

وفي كتاب ابن الجوزي، والسيوطي، ثم يقول: ( اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آله) فعلى ما في نسخ الإحياء أن المقول سبعين مرة هو هذه الصيغة، وعلى ما في كتاب الحافظين يصلي سبعين مرة بأي صيغة كانت، ثم يقول هذه، ولكن الذي يظهر أن الصواب ما في نسخ الإحياء، ( ثم يسجد، ويقول في) حال ( سجوده سبعين مرة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ثم يرفع رأسه، ويقول) وفي بعض النسخ فيقول ( سبعين مرة: رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم) ، وفي نسخ: أنت العلي الأعظم، وفي أخرى: أنت الأعز الأعظم، وفي أخرى: أنت العزيز الأعظم، ( ثم يسجد سجدة أخرى) .

وفي كتاب ابن الجوزي : ثم يسجد الثانية ( يقول فيها مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل) الله حاجته في سجوده، وليس في كتاب ابن الجوزي في سجوده ( فإنها تقضى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يصلي أحد هذه الصلاة، ولفظ ابن الجوزي بعد قوله بيده: ما من عبد ولا أمة صلى هذه الصلاة ( إلا غفر الله له جميع ذنوبه ولو) ، وفي نسخ: وإن ( كانت مثل زبد البحر، وعدد الرمل، ووزن الجبال، وورق الأشجار) ، وعند ابن الجوزي بعدد زبد البحر، وعدد ورق الأشجار، ( ويشفع) ، وفي نسخة: وشفع ( في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار) ، وليس عند ابن الجوزي هذه الزيادة، وإنما زاد بعد قوله: من أهل بيته: فإذا كان في أول ليلة في قبره جاءه ثواب هذه الصلاة فيحييه بوجه طلق ولسان ذلق فيقول: له: حبيبي أبشر قد نجوت من كل شدة، فيقول: من أنت؟ فوالله ما رأيت وجها أحسن من وجهك، ولا سمعت كلاما أحلى من كلامك، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك، فيقول له: يا حبيبي أنا ثواب الصلاة التي صليتها في ليلة كذا في شهر كذا، جئت الليلة لأقضي حقك، وأونس وحدتك، وأرفع عنك وحشتك، فإذا نفخ في الصور أظللت في عرصة القيامة على رأسك، وأبشر فلن تعدم الخير من مولاك أبدا.

قال ابن الجوزي : لفظ الحديث لمحمد بن ناصر ( هذه صلاة مستحبة) استحبها أهل الصلاح ( وإنما أوردناها في هذا القسم؛ لأنها تتكرر بتكرر السنين، وإن كانت لا تبلغ رتبتها رتبة) صلاة ( التراويح، وصلاة العيدين؛ لأن هذه الصلاة نقلها الآحاد) فرتبتها سافلة بالنسبة إلى ما ثبت من طرق، ثم اعتذر عن إيراده إياها في كتابه، مع ما فيها على ما سيأتي بيانه، فقال: ( ولكن رأيت أهل القدس بأجمعهم يواظبون عليها، ولا يسمحون بتركها، فأحببت إيرادها) .

قال الإمام أبو محمد العز بن عبد السلام: لم يكن ببيت المقدس قط صلاة الرغائب في رجب، ولا صلاة نصف شعبان، فحدث في سنة 488 هـ أن قدم عليهم رجل من نابلس، يعرف بابن الحي، وكان حسن التلاوة، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل، ثم انضاف ثالث ورابع، فما ختم إلا وهم جماعة كثيرة، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، وانتشرت في المسجد الأقصى، وبيوت الناس، ومنازلهم، ثم استقرت كأنها سنة إلى يومنا هذا. اهـ .

قال العراقي : أورده رزين في كتابه، وهو حديث موضوع. اهـ .

وقال ابن الجوزي : موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اتهموا به ابن جهضم، ونسبوه إلى الكذب، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت عليهم في جميع الكتب فما وجدتهم. اهـ، وأقره الحافظ السيوطي على ما قال في اللآلئ المصنوعة .

قال ابن الجوزي : ولقد أبدع من وضعها فإنه يحتاج من يصليها أن يصوم، وربما كان النهار شديد الحر فإذا صام لم يتمكن من الأكل حتى [ ص: 424 ] يصلي المغرب، ثم يقف فيها، ويقع في ذلك التسبيح الطويل، والسجود الطويل؛ فيتأذى غاية الأذى، وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح، كيف زوحم بهذه؟! بل هذه عند العوام أعظم وأحلى؛ فإنه يحضرها من لا يحضر الجماعات. اهـ .



وممن حكم بوضعها الإمام سراج الدين أبو بكر الطرطوشي من أئمة المالكية، والعز بن عبد السلام، وفتوى الأخير فيها، ومعارضته لابن الصلاح، وأمر سلطان دمشق بمنع الناس عنها جماعة مشهورة، ولفظ الطرطوشي : صلاة الرغائب موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب عليه. وكذا حكم بوضعها الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه العلم المشهور في الأيام والشهور. وكذا الإمام النووي فقال: هذه الصلاة بدعة مذمومة منكرة قبيحة، ولا تغتر بذكرها في كتاب قوت القلوب والإحياء، وليس لأحد أن يستدل على شرعيتها بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الصلاة خير موضوع، فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. اهـ .

واقتفاهم في ذلك العلامة البرهان الحلبي شارح المنية من أصحابنا المتأخرين، فنقل أن التنقل بالجماعة إذا كان على سبيل التداعي مكروه ما عدا التراويح، والكسوفين، والاستسقاء، ورتب على ذلك أن صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب بالجماعة بدعة مكروهة .

ونقل عن حافظ الدين البزازي : شرعا في نفل وأفسداه، واقتدى أحدهما بالآخر في القضاء، لا يجوز لاختلاف السبب، وكذا اقتداء الناذر بالناذر لا يجوز، ومن هذا كره الاقتداء في صلاة الرغائب، وصلاة البراءة وليلة القدر، ولو بعد النذر إلا إذا قال: نذرت كذا ركعة بهذا الإمام بالجماعة لعدم إمكان الخروج عن العهدة إلا بالجماعة، ولا ينبغي أن يتكلف الالتزام ما لم يكن في الصدر الأول كل هذا التكليف لإقامة أمر مكروه، وهو أداء النفل بالجماعة على سبيل التداعي، فلو ترك أمثال هذه الصلوات تارك ليعلم الناس أنه ليس من الشعائر فحسن. اهـ .

ثم نقل عن ابن الجوزي والطرطوشي ما أسلفنا ذكره، ثم قال: وقد ذكروا لكراهتها وجوها منها فعلها بالجماعة، وهي نافلة، ولم يرد به الشرع، ومنها تخصيص سورة الإخلاص والقدر، ولم يرد به الشرع، ومنها تخصيص ليلة الجمعة، وقد ورد النهي عن تخصيص ليلة يوم الجمعة دون غيرها، وقد ورد النهي عن تخصيص يوم بصيام وليلته بقيام، ومنها أن العامة يعتقدونها فرضا، وكثير منهم يتركون الفرائض ولا يتركونها وهي المصيبة العظمى، ومنها أن فعلها يغري قاصد وضع الأحاديث بالوضع والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها أن الاشتغال بعدد السور مما يخل بالخشوع، وهو مخالف للسنة، ومنها أن في صلاة الرغائب مخالفة للسنة في تعجيل الفطر، ومنها أن سجدتيها مكروهتان إذا لم يشرع التقرب بسجدة منفردة بلا ركوع غير سجدة التلاوة عند أبي حنيفة ومالك، وعند غيرهما غيرها، وغير سجدة الشكر، ومنها أن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين لم ينقل عنهم فعل هذه الصلاة، فلو كانت مشروعة لما فاتت السلف، وإنما حدثت بعد الأربعمائة. اهـ .

وهو كلام حسن، وإن كان في بعض ما أورده من الوجوه محل نظر وتأمل؛ ففي أداء النفل جماعة اختلاف في المذهب، وقد سبق النسقي البزازي بالجواز، وتخصيص بعض السور في بعض صلوات معينة قد ورد به الشرع، ومن طالع كتب الحديث عرف ذلك، وكذا تخصيص بعض الليالي بالقيام وبعض الأيام بالصيام، وإن قلنا بالكراهة فهي تنزيهية كما صرح به العلماء، وكون أن العامة يعتقدونها فرضا لازما لا يتجه به الكراهة، فإنهم إذا فهموا من ذلك خلاف ما يفهمه الخاصة كان ذلك لتقصيرهم، وسوء فهمهم، فطريقهم أن يسألوا ويتفهموا، ما علينا من العامة إذا غلطوا في فهمهم، ولو جئنا ننظر إلى هذا لغيرنا أوضاعا شرعية كثيرة، وكون أن فعلها يغري واضع الأحاديث على وضعها، فهذا قد قفل بابه من بعد الثلاثمائة، فلا تكون هذه الملاحظة وجها لكراهتها، وكون أن الاشتغال بعد السور مما يخل بالخشوع ففيه خلاف، والأشهر جوازه في النوافل، وما ذكر أن تعجيل الإفطار فيها مما يخالف السنة هو غريب، بل السنة قاضية على استحباب التعجيل في الإفطار وكراهة تأخيره إلى اشتباك النجوم، وأما كراهة السجدة المنفردة فمسلم، إلا أن المدعي يقول لم [ ص: 425 ] لا يجوز أن تكون هذه السجدة شكر النعمة لله تعالى على رأي من يجوز ذلك، وقوله: إن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم ينقل عنهم أنهم صلوها، فاعلم أنه لا يلزم من عدم فعلهم لها على الطريقة المعهودة كراهتها أو عدم ورودها، ثم هي من التطوعات من شاء صلاها، ومن شاء تركها، وقوله: إنما حدث بعد الأربعمائة، وكأنه يريد شهرة أمرها عملا، وإلا فأبو طالب المكي قد نوه بشأنها في قوت القلوب، ووفاته سنة 383، وينظر إلى قول ابن الجوزي حيث قال: أن المتهم بوضعها علي بن عبد الله بن جهضم، وليس هو في سند أبي طالب المكي، بل هو إن لم يكن متأخرا عنه في الزمن فهو معاصر له، وهو مع ذلك ليس من الوضاعين، قال الذهبي في الديوان: ليس بثقة، فغاية ما يقال في حديثه أنه ضعيف، لا موضوع، فكم من رجل غير ثقة، وحديثه لا يدخل في حيز المنكر، وإن كان المتهم بوضعها آخر غير ابن جهضم فلا أدرى، وباقي رجاله من فوق ابن جهضم علي بن محمد بن سعيد البصري، وأبوه، وخلف بن عبد الله لم أر من ذكرهم في الضعفاء، فتأمل ذلك بإنصاف، والله أعلم .

وقد ذكر ابن الجوزي أيضا في الموضوعات صلاة لأول ليلة في رجب، وصلاة لنصف رجب أعرضنا عن ذكرهما؛ لأن المشهور بالرغائب هي الصلاة التي ذكر المصنف لا غير .




الخدمات العلمية