الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض بل كل من أمر بمعروف فإن كان الوالي راضيا به فذاك ، وإن كان ساخطا له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه ، فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه ؟ ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة كما روي أن مروان بن الحكم خطب قبل صلاة العيد ، فقال له رجل : إنما الخطبة بعد الصلاة . فقال له مروان: اترك ذلك يا فلان ، فقال أبو سعيد أما هذا فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا فلينكره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان .

فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها ، فكيف يحتاج إلى إذنهم ، وروي أن المهدي لما قدم مكة لبث بها ما شاء الله ، فلما أخذ في الطواف نحى الناس عن البيت ، فوثب عبد الله بن مرزوق فلببه بردائه ثم هزه ، وقال له : انظر ما تصنع ، من جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من البعد حتى إذا صار عنده ، حلت بينه وبينه وقد قال الله تعالى: سواء العاكف فيه والباد ، من جعل لك هذا ؟ فنظر في وجهه ، وكان يعرفه ؛ لأنه من مواليهم ، فقال : عبد الله بن مرزوق؟ قال : نعم . فأخذ فجيء به إلى بغداد ، فكره أن يعاقبه عقوبة يشنع بها عليه في العامة فجعله في إصطبل الدواب ليسوس الدواب وضموا إليه فرسا عضوضا سيئ الخلق؛ ليعقره الفرس فلين الله تعالى له الفرس قال : ثم صيروه إلى بيت وأغلق عليه ، وأخذ المهدي المفتاح عنده ، فإذا هو قد خرج بعد ثلاث إلى البستان يأكل البقل ، فأوذن به المهدي فقال له : من أخرجك ؟ فقال : الذي حبسني : فضج المهدي وصاح ، وقال : ما تخاف أن أقتلك فرفع عبد الله إليه رأسه يضحك ، وهو يقول : لو كنت تملك حياة أو موتا فما زال محبوسا حتى مات المهدي ، ثم خلوا عنه فرجع إلى مكة ، قال : وكان قد جعل على نفسه نذرا إن خلصه الله من أيديهم أن ينحر مائة بدنة فكان يعمل في ذلك حتى نحرها وروي عن حبان بن عبد الله قال : تنزه هارون الرشيد بالدوين ومعه رجل من بني هاشم ، وهو سليمان بن أبي جعفر فقال له هارون : قد كانت لك جارية تغني فتحسن ، فجئنا بها ، قال : فجاءت ، فغنت ، فلم يحمد غناءها ، فقال لها : ما شأنك ؟ فقالت : ليس هذا عودي . فقال للخادم : جئنا بعودها . قال : فجاء بالعود ، فوافق شيخا يلقط النوى فقال الطريق يا شيخ فرفع الشيخ رأسه فرأى العود ، فأخذه من الخادم فضرب به الأرض فأخذه الخادم وذهب به إلى صاحب الربع فقال: احتفظ بهذا ؛ فإنه طلبة أمير المؤمنين فقال له صاحب الربع : ليس ببغداد أعبد من هذا ، فكيف يكون طلبة أمير المؤمنين ؟ فقال له اسمع : ما أقول لك ثم دخل ، على هارون فقال : إني مررت على شيخ يلقط النوى ، فقلت له : الطريق ، فرفع رأسه ، فرأى العود فأخذه ، فضرب به الأرض فكسره ، فاستشاط هارون وغضب واحمرت عيناه ، فقال له سليمان بن أبي جعفر : ما هذا الغضب يا أمير المؤمنين ؟ ابعث إلى صاحب الربع يضرب عنقه ويرم به في الدجلة ، فقال : لا ، ولكن نبعث إليه ونناظره أولا فجاء الرسول فقال : أجب أمير المؤمنين . فقال : نعم . قال : اركب قال: لا ، فجاء يمشي حتى وقف على باب القصر ، فقيل لهارون : قد جاء الشيخ . فقال للندماء : أي شيء ترون نرفع ما قدامنا من المنكر حتى يدخل هذا الشيخ ، أو نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر؟ فقالوا له : نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر أصلح . فقاموا إلى مجلس ليس فيه منكر ، ثم أمر بالشيخ، فأدخل وفي كمه الكيس الذي فيه النوى ، فقال له الخادم : أخرج هذا من كمك وادخل على أمير المؤمنين فقال : من هذا عشائي الليلة . قال : نحن نعشيك . قال : لا حاجة لي في عشائكم . فقال هارون للخادم : أي شيء تريد منه؟ قال : في كمه نوى، قلت له : اطرحه ، وادخل على أمير المؤمنين . فقال : دعه لا يطرحه . قال : فدخل وسلم ، وجلس، فقال له هارون : يا شيخ ، ما حملك على ما صنعت ؟ قال : وأي شيء صنعت ؟ وجعل هارون يستحي أن يقول : كسرت عودي فلما أكثر عليه قال : إني سمعت أباك وأجدادك يقرءون هذه الآية على المنبر : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وأنا رأيت منكرا فغيرته فقال : فغيره . فوالله ما قال إلا هذا فلما خرج أعطى الخليفة رجلا بدرة وقال : اتبع الشيخ، فإن رأيته يقول : قلت لأمير المؤمنين وقال لي فلا تعطه شيئا، وإن رأيته لا يكلم أحدا ، فأعطه البدرة . فلما خرج من القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت ، فجعل يعالجها ولم يكلم أحدا ، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين خذ : هذه البدرة فقال : قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها . ويروى أنه أقبل بعد فراغه من كلامه على النواة التي يعالج قلعها من الأرض وهو يقول :

أرى الدنيا لمن هي في يديه هموما كلما كثرت لديه     تهين المكرمين لها بصغر
وتكرم كل من هانت عليه     إذا استغنيت عن شيء فدعه
وخذ ما أنت محتاج إليه

.

وعن سفيان الثوري رحمه الله قال : حج المهدي سنة ست وستين ومائة .

فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يخبطون يمينا وشمالا بالسياط فوقفت فقلت : يا حسن الوجه، حدثنا أيمن عن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طرد ولا جلد ولا إليك إليك .

وها أنت يخبط الناس بين يديك يمينا وشمالا . فقال لرجل : من هذا؟ قال : سفيان الثوري . فقال يا سفيان : لو كان المنصور ما احتملك على هذا فقال : لو أخبرك المنصور بما لقى لقصرت عما أنت فيه. قال : فقيل له : إنه قال لك : يا حسن الوجه، ولم يقل لك يا أمير المؤمنين . فقال : اطلبوه . فطلب سفيان ، فاختفى .

.

وقد روي عن المأمون أنه بلغه أن رجلا محتسبا يمشي في الناس يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ولم يكن مأمورا من عنده بذلك ، فأمر بأن يدل عليه ، فلما صار بين يديه قال له إنني : بلغني أنك رأيت نفسك أهلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن نأمرك . وكان المأمون جالسا على كرسي ينظر في كتاب أو قصة فأغفله فوقع منه ، فصار تحت قدمه من حيث لم يشعر به ، فقال له المحتسب : ارفع قدمك عن أسماء الله تعالى، ثم قل ما شئت فلم يفهم المأمون مراده فقال : ماذا تقول ؟ حتى أعاده ثلاثا ، فلم يفهم فقال : إما رفعت أو أذنت لي حتى أرفع . فنظر المأمون تحت قدمه ، فرأى الكتاب ، فأخذه وقبله وخجل ثم عاد وقال : لم تأمر بالمعروف وقد جعل الله ذلك إلينا أهل البيت ، ونحن الذين قال الله تعالى فيهم الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ؟ فقال صدقت يا أمير المؤمنين ، أنت كما وصفت نفسك من السلطان والتمكن غير أنا أعوانك وأولياؤك فيه ولا ، ينكر ذلك إلا من جهل كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان ، يشد بعضه بعضا وقد مكنت في الأرض ، وهذا كتاب الله وسنة رسوله ، فإن انقدت لهما شكرت لمن أعانك لحرمتهما ، وإن استكبرت عنهما ، ولم تنقد لما لزمك منهما فإن الذي إليه أمرك وبيده عزك وذلك قد شرط أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، فقل الآن ما شئت . فأعجب المأمون بكلامه وسر به ، وقال : مثلك يجوز له أن يأمر بالمعروف فامض على ما كنت عليه بأمرنا وعن رأينا فاستمر الرجل على ذلك . .

ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن .

التالي السابق


(واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة) والأئمة (قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض) والإذن، (بل كل من أمر بمعروف فإن كان الوالي راضيا به فذاك، وإن كان ساخطا له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه؟ ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة) في عصرهم، (كما روي أن مروان بن الحكم) بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، رابع خلفائهم، قام بالأمر سنة أربع وستين، فبقي أربعة أشهر ومات، ثم تولى بعده عبد الله بن الزبير بمكة (خطب قبل صلاة العيد، فقال له رجل: إنما الخطبة بعد الصلاة. فقال: مروان ترك ذلك يا أبا فلان، فقال أبو سعيد) الخدري رضي الله عنه، وكان حاضرا هناك: (أما هذا) الرجل (فقد مضى ما عليه) من الحق (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكرا فلينكره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) . رواه الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان ، وقد تقدم قريبا .

(فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحته، فكيف يحتاج إلى إذنهم، وروي أن المهدي) محمد بن عبد الله بن عباس (لما قدم مكة) في أيام خلافته (لبث ما شاء الله، فلما أخذ في الطواف نحى الناس) أي: طردهم (عن البيت، فوثب عبد الله بن مرزوق) وفي بعض النسخ: مسروق، وهو من موالي بني العباس (فلببه بردائه) أي: جعله في عنقه، (ثم) جمعه و (هزه، وقال له: انظر ما تصنع، من جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من البعد) أو القرب؟ قال الله تعالى: سواء العاكف فيه والباد (حتى إذا صار عنده، حلت بينه وبينه، من جعل لك هذا؟ فنظر) المهدي (في وجهه، وكان يعرفه؛ لأنه من مواليهم، فقال: أعبد الله بن مرزوق؟ قال: نعم. فأخذ) في الحال (فجيء به إلى بغداد، فكره أن يعاقبه عقوبة يشنع بها على العامة) فتنكره قلوبهم، (فجعله في إصطبل الدواب ليسوس الدواب) ويخدمها، (وضموا إليه فرسا عضوضا) تعض من قربها (سيئ الخلق؛ ليعقره الفرس) ، فيكفى المؤنة (فلين الله له الفرس المذكور) أي: ذلله له (قال: ثم صيره إلى بيت، وأخذ المهدي المفتاح عنده، فإذا هو قد خرج بعد ثلاث إلى البستان يأكل البقل، فأوذن به) أي: أعلم به (المهدي فقال: من أخرجك؟ فقال: الذي حبسني. قال: فضج المهدي وصاح، وقال: ما أخاف شيئا إلا أن أقتلك) كذا في بعض النسخ، وفي أخرى بحذف "إلا"، وفي بعضها: وقال: أما تخاف أن أقتلك، (فرفع عبد الله إليه رأسه يضحك، وهو يقول: لو كنت تملك حياة أو موتا) أي: لكنت تفعل ذلك، (فما زال محبوسا حتى مات المهدي، ثم خلوا عنه) أي: تركوه (فرجع إلى مكة، قال: وكان قد جعل على نفسه نذرا إن خلصه الله من أيديهم أن ينحر مئة بدنة) أي: ناقة، (فكان يعمل في ذلك حتى نحرها) ، ووفى بنذره. أخرجه ابن أبي الدنيا في أخبار الخلفاء، (وروي عن حبان بن عبد الله) هكذا في النسخ بكسر الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة المشددة، وفي بعضها بفتح الحاء وتشديد التحتية، قال الذهبي في الديوان: حبان بن عبد الله أبو حبلة الدارمي، قال الفلاس: كذاب، (قال: تنزه هارون الرشيد بالدوين) كأمير، اسم موضع متنزه بالعراق [ ص: 21 ] وفي نسخة بغير نون، وفي أخرى: بالدومتين، مثنى دومة (ومعه رجل من بني هاشم، وهو سليمان بن أبي جعفر) يكنى أبا أيوب وهو في النسب عم هارون، (فقال) له (هارون: قد كانت لك جارية تغني فتحسن، فجئنا بها، قال: فجاءت، فغنت، فلم يحمد غناءها، فقال: ما شأنك؟ فقالت: ليس هذا عودي. فقال للخادم: جئنا بعودها. قال: فجاء بالعود، فوافق) الخادم (شيخا يلقط النوى) من الأرض، (فقال) الخادم: (الطريق يا شيخ) أي: نح عن الطريق، (فرفع الشيخ رأسه فرأى العود، فأخذه فضرب به الأرض) فانكسر، (فأخذه الخادم فذهب به إلى صاحب الربع) أي: المنزل، (فقال: احتفظ بهذا؛ فإنه طلبة أمير المؤمنين) أي: مطلوبه، (فقال له صاحب الربع: ليس ببغداد أعبد من هذا، فكيف يكون طلبة أمير المؤمنين؟ فقال له: هو ما أقول لك، فدخل على هارون فقال: إني مررت على شيخ يلقط النوى، فقلت له: الطريق، فرفع رأسه، فرأى العود، فضرب به الأرض، فاستشاط هارون وغضب واحمرت عيناه، فقال له سليمان بن أبي جعفر: ما هذا الغضب يا أمير المؤمنين؟ ابعث إلى صاحب الربع يضرب عنقه، ويرمي به في الدجلة، فقال: لا، ولكن نبعث إليه نناظره أولا) أي: فإن رأيناه على الحق لم نقتله، (فجاء الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: نعم. قال: اركب. قال: لا، فجاء يمشي حتى وقف على باب القصر، فقيل لهارون: قد جاء الشيخ. فقال للندماء: أي شيء ترون نرفع ما قدامنا من المنكر حتى يدخل الشيخ، أو نقوم إلى مجلس ليس فيه منكر؟ فقالوا: بل نقوم إلى مجلس ليس فيه منكر أصلح. فقاموا إلى مجلس آخر، ثم أمر بالشيخ، فأدخل وفي كمه الكيس الذي فيه النوى، فقال له الخادم: أخرج هذا وادخل على أمير المؤمنين. قال: من هذا عشائي الليلة إن شاء الله تعالى. قال: نحن نعشيك. قال: لا حاجة لي في عشائك. فقال هارون له: أي شيء تريد منه؟ قال: في كمه نوى، قلت له: اطرحه، وادخل على أمير المؤمنين. فقال: دعه لا يطرحه. قال: فدخل، فسلم، وجلس، فقال له هارون: يا شيخ، ما حملك على ما صنعت؟ قال: وأي شيء صنعت؟ وجعل هارون يستحي أن يقول: كسرت عودي) أي: استحياء من إضافة العود إليه، وكان يمكنه أن يقول: لأي شيء كسرت عود امرأة، أو عود فلانة، أو عود جماعة، (فلما أكثر عليه قال: إني سمعت أباك وأجدادك يقرؤون هذه الآية على المنبر: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ورأيت منكرا فغيرته. قال: فغيره. فوالله ما قال إلا هذا) ؛ لأنه غلبت عليه هيبة الحق، فلم ينطق إلا بخير، وهذه كرامة للشيخ المذكور، وأمر بخروجه (فلما خرج أعطى لرجل بدرة) أي: صرة فيها دراهم، (فقال: اتبع الشيخ، فإن رأيته يقول: قلت لأمير المؤمنين) كذا (وقال لي) كذا (فلا تعطه شيئا، وإن رأيته لم يكلم أحدا، فأعطه البدرة. فلما خرج من القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت، فجعل يعالجها) حتى أخرجها (ولم يكلم أحدا، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: خذ هذه البدرة. قال: قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها. ويروى) في هذه القصة (أنه أقبل بعد فراغه من كلامه على نواة يعالج قلعها من الأرض [ ص: 22 ] وهو يقول:

أرى الدنيا لمن هي في يديه هموما كلما كثرت لديه تهين المكرمين لها بصغر
وتكرم كل من هانت عليه إذا استغنيت عن شيء فدعه
وخذ ما أنت محتاج إليه)

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا محمد بن عمران حدثنا أبو حاتم عن عمرو بن خالد سمعت مسلم بن ميمون الخواص يقول:

أرى الدنيا لمن هي في يديه عذابا كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغر وتكرم كل من هانت عليه
فدع عنك الفضول تعش حميدا وخذ ما كنت محتاجا إليه



(وعن سفيان) بن سعيد (الثوري رحمه الله تعالى قال: حج المهدي) محمد بن أبي جعفر المنصور العباسي (في سنة ست وستين ومئة) من الهجرة، قال العراقي : هذا ليس بصحيح؛ فإن الثوري توفي سنة إحدى وستين. اهـ .

قلت: وهو كما قال، ففي طبقات ابن سعد: واجتمعوا على أنه -أي: سفيان- توفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومئة (فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يخبطون) أي: يضربون (يمينا وشمالا بالسياط) ليتسع المحل، ويتمكن من الرمي (فوقفت وقلت: يا حسن الوجه، حدثنا أيمن بن نابل) الحبشي أبو عمران المكي نزيل عسقلان مولى أبي بكر الصديق قال الفضل بن موسى: قال لي سفيان الثوري: يا فضل، هل لك في لقاء أبي عمران؛ فإنه ثقة؟ فلقيته، فإذا حبشي طوال ذو مشافر مكفوف، وقال ابن معين: شيخ ثقة، وقال عباس الدوري: كان شيخا عابدا فاضلا يحدث عنه بزهد وفضل، وقال النسائي: لا بأس به، وقال يعقوب بن شيبة: صدوق، إلى الضعف ما هو، وقال الدارقطني: ليس بالقوي، خالف الناس، ولو لم يكن إلا حديث التشهد، وخالفه الليث بن سعد وعمرو بن الحارث وزكريا بن خالد عن أبي الزبير، وقال ابن عدي : وأرجو أن أحاديثه لا بأس بها صالحة، روى له البخاري متابعة، والترمذي والنسائي وابن ماجه (عن قدامة بن عبد الله) بن عمار بن معاوية العامري (الكلابي) يكنى أبا عبد الله، صحابي، شهد حجة الوداع، وله رواية قليلة، وكان بنجد، روى له الترمذي والنسائي وابن ماجه (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طرد ولا جلد ولا إليك إليك) قال العراقي : رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه . اهـ .

(وها أنت يخبط الناس بين يديك يمينا وشمالا. فقال) المهدي (لرجل: من هذا؟ فقال:) هو (سفيان الثوري. فقال لسفيان: لو كان المنصور) يعني أباه أبا جعفر حيا (ما احتملك على هذا. فقلت: لو أخبرك المنصور بما لقي) من الله (لأقصرت عما أنت فيه. قال: فقيل له: إنه قال: يا حسن الوجه، ولم يقل لك يا أمير المؤمنين. فقال: اطلبوه. فطلب سفيان، فاختفى) هكذا أورد المصنف هذه القصة تبعا لغيره، وقد عرفت أن سفيان توفي قبل هذه المدة بخمس سنوات، ولكن ثبت أنه اختفى من المهدي حين طلبه، وأنه كان ذلك بسبب أمره بالمعروف عليه، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية بسنده إلى الحسن بن شجاع قال: قال أبو نعيم : قدم المهدي مكة وسفيان الثوري بها، فدعاه فقال له سفيان: احذر هذا، كاتبا كان بجنبه. قال: وقال له سفيان: اتق الله، واعلم أن عمر بن الخطاب حج فأنفق ستة عشر دينارا، قال: وحدثه بحديث أيمن، فقال: حدثني أبو عمران، ولم يذكر أيمن، فقيل: كيف لم يذكر أيمن؟ قال: لعله يدعى فيفزع الرجل. قال: فبان بهذا أن للقصة المذكورة أصلا، وإنما الغلط جاء من التاريخ، وكانت تولية المهدي سنة ثمان وخمسين، فلعل حقه: سنة ستين، فتأمل ذلك .

وأخرج أبو نعيم أيضا من طريق سفيان بن عيينة قال: قال سفيان الثوري: دخلت على المهدي فرأيت ما قد هيأه للحج، فقلت: ما هذا؟ حج عمر بن الخطاب فأنفق ستة عشر دينارا. ومن طريق الفريابي عن سفيان الثوري قال: دخلت على المهدي فقلت: بلغني أن عمر بن الخطاب أنفق في حجه اثني عشر دينارا، وأنت فيما أنت فيه مغضب. وقال: تريد أن أكون في مثل الذي أنت فيه؟ قال: قلت: فإن لم تكن في مثل الذي أنا فيه ففي دون ما أنت فيه .

ومن طريق أبي أحمد الزبيري قال: كنت بمسجد الخيف مع سفيان الثوري والمنادي ينادي: من جاء بسفيان فله عشرة آلاف، ومن طريق [ ص: 23 ] ابن مهدي عن سفيان قال: طلبت أيام المهدي، فهربت فأتيت اليمن، فكنت أنزل في حي.. ثم ذكر باقي القصة .

ومن طريق محمد بن مسعود عن سفيان قال: أدخلت على المهدي بمنى، فلما سلمت عليه بالإمرة قال لي: أيها الرجل، طلبناك فأعجزتنا، والحمد لله الذي جاء بك، فارفع إلينا حاجتك. فقلت: قد ملأت الأرض ظلما وجورا فاتق الله، وليكن منك في ذلك غير. قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه، وقال: ارفع إلينا حاجتك. قال: قلت: أبناء المهاجرين ومن معهم بإحسان بالباب؛ فاتق الله وتوصل إليهم حقوقهم. قال: فطأطأ رأسه، فقال: أيها الرجل، ارفع إلينا حاجتك. قلت: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر دينارا، وأرى ههنا أمورا لا تطيقها الجبال .

(وقد روي عن المأمون) عبد الله بن هارون العباسي (أنه بلغه أن رجلا يمشي في الناس يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ولم يكن مأمورا من عنده بذلك، فأمر بأن يدخل عليه، فلما صار بين يديه قال له: إنه بلغني أنك رأيت نفسك أهلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن نأمرك. وكان المأمون جالسا على كرسي ينظر في كتاب أو قصة) رفعت إليه (فأغفله) أي: الكتاب الذي كان ينظر فيه، (فوقع منه، فصار تحت قدمه من حيث لم يشعر، فقال) ذلك الرجل (المحتسب: ارفع قدمك عن اسم الله تعالى، ثم قل ما شئت) أن تقول (فلم يفهم المأمون مراده) ؛ لكونه كان غافلا، (فقال: ماذا تقول؟ حتى أعاده ثلاثا، فلم يفهم) مراده (فقال: إما رفعت) اسم الله تعالى (أو أذنت لي حتى أرفع. فنظر المأمون تحت قدمه، فرأى الكتاب، فأخذه فقبله) احتراما له، (وخجل) من ذلك (ثم عاد) إلى الكلام، (وقال: لم تأمر بالمعروف وقد جعل الله ذلك إلينا أهل البيت، ونحن الذين قال الله تعالى فيهم) في كتابه العزيز: ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ؟ فقال) الرجل: (صدقت يا أمير المؤمنين، أنت كما وصفت نفسك من السلطان والتمكن) في الأرض بالخلافة (غير أنا أعوانك) أي: أنصارك (وأولياؤك فيه، لا ينكر ذلك إلا من جهل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى) في كتابه العزيز: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا) . قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي موسى، وقد تقدم في الباب الثالث من آداب الصحبة (وقد مكنت في الأرض، وهذا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن انقدت لهما شكرت لمن أعانك) عليهما (لحرمتهما، وإن استكبرت عنهما، ولم تنقد لما ألزمك منهما فإن الذي إليه أمرك وبيده عزك وذلك) وهو الله جل جلاله (قد شرط أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، فقل الآن ما شئت. فأعجب المأمون بكلامه) ورضي له (وسر به، وقال: مثلك يجوز له أن يأمر بالمعروف) وينهى عن المنكر، (فامض على ما كنت عليه بأمرنا وعن رأينا) وإذننا. (فاستمر الرجل على ذلك .

ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن) ممن له ولاية أمر .




الخدمات العلمية