الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما النظار وذوو الاعتبار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكانه وإفضائه إلى هذا المقصد على الندور فإنه أكثر أحوال الأنبياء والأولياء ولكن استوعروا هذا الطريق واستبطئوا ثمرته واستبعدوا استجماع شروطه وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحد كالمتعذر وإن حصل في حال فثباته أبعد منه ، إذ أدنى وسواس وخاطر يشوش القلب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " قلب المؤمن أشد تقلبا من القدر في غليانها وقال عليه أفضل الصلاة والسلام قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ، وفي أثناء هذه المجاهدة قد يفسد المزاج ويختلط العقل ويمرض البدن وإذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم نشبت بالقلب خيالات فاسدة تطمئن النفس إليها مدة طويلة إلى أن يزول وينقضي العمر قبل النجاح فيها فكم من صوفي سلك هذا الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة ولو كان قد أتقن العلم من قبل لانفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال فالاشتغال بطريق التعلم أوثق وأقرب إلى الغرض وزعموا أن ذلك يضاهي ما لو ترك الإنسان تعلم الفقه ، وزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم لم يتعلم ذلك وصار فقيها بالوحي والإلهام من غير تكرير وتعليق فأنا أيضا ربما انتهت بي الرياضة والمواظبة إليه ومن ظن ذلك فقد ظلم نفسه وضيع عمره بل هو كمن يترك طريق الكسب والحراثة رجاء العثور على كنز من الكنوز فإن ذلك ممكن ولكنه بعيد جدا ، فكذلك هذا وقالوا : لا بد أولا من تحصيل ما حصله العلماء وفهم ما قالوه ، ثم لا بأس بعد ذلك بالانتظار لما لم ينكشف لسائر العلماء فعساه ينكشف بعد ذلك بالمجاهدة .

التالي السابق


ولنرجع إلى شرح كلام المصنف قال رحمه الله تعالى : (وأما النظار وذوو الاعتبار) من العلماء (فلم ينكروا وجود هذه الطريق وإمكانه وإفضاءه إلى المقصد) يقع (على الندور) والقلة (فإنه أكبر أحوال الأنبياء والأولياء) لما فيه من لوامع النهايات (ولكن استوعروا هذا الطريق) أي استصعبوه (واستبطئوا ثمرته) ونتيجته (واستبعدوا اجتماع شروطه) التي شرطوها (وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحد) الذي حددوه (كالمتعذر) على الإنسان، (وإن حصل في حالة فثباته أبعد منه، إذ أدنى وسواس و) أقل (خاطر يشوش القلب) وهم قالوا: إن نفي الخواطر الثلاثة لازم للمريد ، أعني النفسية والشيطانية والملكية وأنه لا بد من إثبات الخاطر الحقاني ومعرفة الخواطر وتمييزها عسر ولا تتم معرفة ذلك وتمييزها إلا لمن تحلى بالتقوى والزهد وأكل الحلال الطيب دائما ، وأنى يتيسر ذلك لكل أحد في كل وقت ، وأنه يلزم المريد دائما مراقبة خواطره ولا يترك خاطر الغير يمر بباله ، وكل ذلك صعب المنال قريب المحال، (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " قلب المؤمن أشد تقلبا من القدر في غليانه") قال العراقي : رواه أحمد والحاكم وصححه من حديث المقداد بن الأسود اهـ .

قلت: ولفظ القوت: : القدر إذا استجمعت في غليانها، وسيأتي قريبا في آخر هذا الكتاب، (وقال) -صلى الله عليه وسلم-: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) قال العراقي : رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر اهـ .

قلت: ولفظ مسلم: " إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" وكذلك رواه أحمد. قال النووي : فيه المذهبان التفويض أو التأويل على المجاز التمثيلي كما يقال: فلان في قبضتي لا يراد به أنه حال في كفه، بل المراد تحت قدرته ، فالمعنى أنه سبحانه يتصرف في قلوب عباده وغيرها كيف يشاء، لا يمتنع عليه فيها شيء ، ولا يفوته ما أراده ، كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين أصبعيه ، فخاطب العرب بما يفهمونه ، ومثله بالمعاني الحسية تأكيدا له في نفوسهم (وفي أثناء هذه المجاهدة فقد يفسد المزاج) بطرو أمراض ويختلط العقل بحصول وسواس (ويمرض القلب) بعلل خارجة، (وإذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم) الظاهرة (تشبث بالقلب خيالات فاسدة) وأوهام باطلة (تطمئن النفس إليها مدة طويلة) من الزمان (إلى أن تزول) عنها، (والعمر) لا يفي لذلك، بل قد (ينقضي دون النجاح فيها) والدرك لمطلوبه منها ، فكم من صوفي سلك هذا الطريق، ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة ، وأكثر وأقل، وكل ذلك لعدم تهذيبه في العلوم، (ولو كان قد أتقن في العلم من قبل لانفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال) وقد يجاب عن ذلك بأن تلك الخيالات الفاسدة التي تتشبث بالقلب إنما منشؤها تلك العلوم التي تعلمها وظن في نفسه أنها معارف موصلة ، وفي الحقيقة هي القواطع عن الطريق، وهي التي لا تفي الأعمار في تحصيلها ، وأما السالك الذي بصدد تصفية قلبه من الكدورات الوهمية فهو على هدى من ربه إن اعتل بدنه أو فسد مزاجه فحصل له بذلك تفرقة خاطر، فهو معذور عند الله، وإن مات فقد وقع أجره على الله ، وحقيق أن يقال هو عاشق إن مات ليلة وصاله لا يلام، ثم قالوا: (والاشتغال بطريق التعلم أوثق وأقرب إلى الغرض) وهو صحيح في نفسه ولكن

[ ص: 250 ] كم من مشتغل في طريق التعلم قد جره علم إلى علم آخر، فلم يتبع علما فعلما، ولا كتابا فكتابا، حتى يأتيه الأجل وهو لم يتم العمل به ، بل جذبه إلى الخوض فيما لا يعنيه ، وأما من اشتغل بتعلم ما يهتدي به مقتصرا على الواجب منه ، ثم اهتدى إلى السلوك ، فهذا أقل من قليل ، وأهل الطريق منهم، (وزعموا أن ذلك يضاهي ما لو ترك الإنسان تعلم الفقه، وزعم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يتعلم) بالدراسة (ولكن صار فقيها بالوحي) النازل من السماء (والإلهام) الملكي في روعه (من غير تكرار) لمسائل علمية (وتعليق بكتابة فأنا أيضا ربما أنتهي بالرياضة إليه) ويحصل لي الفتوح بالفقه في الدين، (ومن ظن ذلك فقد ظلم نفسه) وضيع عمره فيما لا يعنى ، بل هو كمن ترك طريق الكسب والحراثة بالأرض (رجاء العثور على كنز من الكنوز) يفتح له فيأخذ منه ما يستغني به (فإن ذلك ممكن) في العقل (وهو بعيد جدا، فكذلك هذه) وهذان المثالان صحيحان ، ولكن ليس في السالكين طريق الحق من يخطر بباله شيء من ذلك ، وحاشاهم من ذلك ، نعم من المشتبه بهم في الطريق أو المتشبع بما ليس له قد يمكن أن يقع منه ، ولكن لا كلام مع هؤلاء، والصادقون في سلوكهم على خلاف ذلك ، فلا ينسب الزعم المذكور إليهم (فقالوا: لا بد أولا من تحصيل ما حصله العلماء وفهم ما قالوه ، ثم لا بأس بعد ذلك بالانتظار لما لم ينكشف لسائر العلماء فعساه ينكشف بالمجاهدة بعد ذلك) وهذا مسلم، ولكن تحصيل ما حصله العلماء وفهم ما قالوه إن كان المراد به على وجه الإحاطة والكمال ، فالأعمار لا تفي بذلك لخلاف أقوالهم وأقواتهم ومعارفهم ، فإذا اشتغل بتمييز أقوالهم وتوجيهها إلى أحسن المحامل والجمع بينها على أحسن الوجوه ، وفي هذه متى يتفرغ لتصفية القلب عن الغير، وهو قد ملأه بالغير ، وهذه الوجوه والمناقضات متى انتقشت في لوح القلب خصوصا من زمن الصغر ، فإن إزالتها عسيرة جدا ، فكيف ينكشف له ما لم ينكشف لغيره ، وهو بعد مشحون القلب ، ولا تتم المجاهدة إلا بتخليته عن ذلك كله ، فتأمل فيما أشرت إليك ، ولا تعجل في رده ، ولا عليك أن تتأنى في فهمه ، فإن المواهب لا حرج عليها .




الخدمات العلمية