الشرط الخامس : كونه قادرا ولا يخفى أن إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها وقال العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه رضي الله عنه جاهدوا الكفار بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم فافعلوا واعلم أنه لا يقف ابن مسعود العجز الحسي ، بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروها يناله ، فذلك في معنى العجز وكذلك إذا لم يخف مكروها ولكن علم أن إنكاره لا ينفع ، فليلتفت إلى معنيين ، أحدهما عدم إفادة الإنكار امتناعا ، والآخر خوف مكروه ويحصل من اعتبار المعنيين أربعة أحوال أحدها : أن يجتمع المعنيان بأن يعلم أنه لا ينفع كلامه ويضرب إن تكلم فلا تجب عليه الحسبة بل ربما تحرم في بعض المواضع ، نعم يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر ، ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب ولا يلزمه مفارقة تلك البلدة والهجرة إلا إذا كان يرهق إلى الفساد أو يحمل على مساعدة السلاطين في الظلم والمنكرات فيلزمه الهجرة إن قدر عليها ؛ فإن الإكراه لا يكون عذرا في حق من يقدر على الهرب من الإكراه . سقوط الوجوب على
الحالة الثانية : أن ينتفي المعنيان جميعا بأن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ، ولا يقدر له على مكروه ، فيجب عليه الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة .
الحالة الثالثة : أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره ، لكنه لا يخاف مكروها فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها ، ولكن تستحب ؛ لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين .
الحالة الرابعة عكس هذه، وهو أن يعلم أنه يصاب بمكروه ، ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها ، ويريق الخمر ، أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال ، ويتعطل عليه هذا المنكر ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه فهذا ليس بواجب ، وليس بحرام ، بل هو مستحب ، ويدل عليه الخبر الذي أوردناه في ولا شك في أن ذلك مظنة الخوف ويدل عليه أيضا ما روي عن فضل كلمة حق عند إمام جائر رحمه الله تعالى أنه قال : سمعت من بعض الخلفاء كلاما فأردت أن أنكر عليه وعلمت أني أقتل ولم يمنعني القتل ولكن كان في ملأ من الناس، فخشيت أن يعتريني التزين للخلق ، فأقتل من غير إخلاص في الفعل فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : أبي سليمان الداراني ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قلنا : لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل ، وإن علم أنه يقتل ، وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية ، وليس كذلك ، فقد قال رضي الله عنهما ليس التهلكة ذلك بل ترك النفقة في طاعة الله تعالى ، أي : من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه . ابن عباس
وقال التهلكة هو أن يذنب الذنب ثم يقول : لا يتاب علي . البراء بن عازب
وقال أبو عبيدة هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيرا حتى يهلك وإذا جاز أن يقاتل الكفار حتى يقتل ، جاز أيضا له ذلك في الحسبة ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف ، أو العاجز فذلك حرام وداخل تحت عموم آية التهلكة وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم ؛ جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل ، إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق ، أو في تقوية قلوب أهل الدين وأما إن رأى فاسقا متغلبا وعنده سيف وبيده قدح وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجها ، وهو عين الهلاك ؛ فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثرا ويفديه بنفسه ، فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له ، بل ينبغي أن يكون حراما ، وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه ، أو أقاربه ، أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة، بل تحرم؛ لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضي ذلك إلى منكر آخر ، وليس ذلك من القدرة في شيء ، بل لو علم أنه لو احتسب لبطل ذلك المنكر ، ولكن كان ذلك سببا لمنكر آخر يتعاطاه غير المحتسب عليه، فلا يحل له الإنكار على الأظهر؛ لأن المقصود عدم مناكير الشرع مطلقا لا من زيد أو عمرو ، وذلك بأن يكون مثلا مع الإنسان شراب حلال نجس بسبب وقوع نجاسة فيه، وعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر، أو شرب أولاده الخمر لإعوازهم الشراب الحلال فلا معنى لإراقة ذلك ، ويحتمل أن يقال : إنه يريق ذلك ، فيكون هو مبطلا لمنكر ، وأما شرب الخمر فهو الملوم فيه ، والمحتسب غير قادر على منعه من ذلك المنكر ، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون ، وليس ببعيد فإن هذه مسائل فقهية لا يمكن فيها الحكم إلا بظن ، ولا يبعد أن يفرق بين درجات المنكر المغير والمنكر الذي تفضي إليه الحسبة والتغيير ؛ فإنه إذا كان يذبح شاة لغيره ليأكلها وعلم أنه لو منعه من ذلك لذبح إنسانا وأكله، فلا معنى لهذه الحسبة، نعم لو كان منعه عن ذبح إنسان أو قطع طرفه يحمله على أخذ ماله فذلك له وجه فهذه دقائق واقعة في محل الاجتهاد ، وعلى المحتسب اتباع اجتهاده في ذلك كله، ولهذه الدقائق نقول: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة ، فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى اجتهاد ، فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه ، وعن هذا يتأكد ظن من لا يثبت ولاية الحسبة إلا بتعيين الوالي إذ ربما ينتدب لها من ليس أهلا لها لقصور معرفته أو قصور ديانته فيؤدي ذلك إلى وجوه من الخلل ، وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك إن شاء الله فإن قيل : وحيث أطلقتم العلم بأن يصيبه مكروه أو أنه لا تفيد حسبته ، فلو كان بدل العلم ظن فما حكمه ؟ قلنا : الظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم وإنما يظهر الفرق عند تعارض الظن والعلم ؛ إذ يرجح العلم اليقيني على الظن ويفرق بين العلم والظن في مواضع أخر، وهو أنه يسقط وجوب الحسبة عنه ، حيث علم قطعا أنه لا يفيد ، فإن كان غالب ظنه أنه لا يفيد ، ولكن يحتمل أن يفيد ، وهو مع ذلك لا يتوقع مكروها ، فقد اختلفوا في وجوبه والأظهر وجوبه؛ إذ لا ضرر فيه وجدواه متوقعة .