الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوبا عن الله تعالى ، وهو الطبع وهو الرين ، قال الله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال عز وجل أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون فربط عدم السماع بالطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى فقال تعالى واتقوا الله واسمعوا واتقوا الله ويعلمكم الله .

ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلوب ، وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بأمر الآخرة ، ويستعظم أمر الدنيا ، ويصير مقصور الهم عليها فإذا ، قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أذن وخرج من أذن ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة والتدارك ، أولئك الذين يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور وهذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن والسنة .

قال ميمون بن مهران إذا أذنب العبد ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع وتاب صقل وإن عاد زيد فيها حتى يعلو قلبه فهو الران وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر ، وقلب الكافر أسود منكوس فطاعة الله تعالى بمخالفة الشهوات مصقلات للقلب ، ومعاصيه مسودات له ، فمن أقبل على المعاصي اسود قلبه ومن أتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه ، ولكن ينقص نوره فهو كالمرآة التي يتنفس فيها ، ثم تمسح ويتنفس، ثم تمسح، فإنها لا تخلو عن كدورة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : القلوب أربعة : قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن ، وقلب أسود منكوس، فذلك قلب الكافر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه، فذلك قلب المنافق ، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد ، فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها ، وفي رواية: ذهبت به .

قال الله تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون فأخبر أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا .

فالتقوى باب الذكر ، والذكر باب الكشف ، والكشف باب الفوز الأكبر ، وهو الفوز بلقاء الله تعالى .

التالي السابق


(وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوبا عن الله تعالى ، وهو الطبع والرين ، قال الله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال تعالى) في ذكر القلوب المقفلة بالذنوب: ( أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون فربط عدم السماع والطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى فقال) تعالى: ( واتقوا الله واسمعوا ) وقال تعالى في فض الطابع بالتوبة وفي مفتاح القفل بالتقوى ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) وقال -صلى الله عليه وسلم- في مجمل صفة القلب: " التقوى ههنا " وأشار إلى القلب، (ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلب ، وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بالآخرة ، ويستعظم أمر الدنيا ، ويصير مقصورا عليها ، وإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار) أي: الشدائد (دخل من أذن وخرج من الأخرى) ولم يلق له بالا (ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة والتدارك) عما فرط فيه ( ، أولئك الذين يئسوا من الآخرة ) كما قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة ( كما يئس الكفار من أصحاب القبور ) أي: كما يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله ، كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (وهذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن والسنة) أما القرآن فقوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون والرين صدأ يعلو الشيء الجلي ، وأما السنة فأشار إليه المصنف بقوله: (قال ميمون بن مهران) هو الخبر ذو الثقة كاتب عمر بن عبد العزيز تابعي ، وقد تقدمت ترجمته ، ولفظ القوت: وروينا عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: (إذا أذنب العبد) ولفظ القوت أن العبد إذا أذنب (ذنبا نكت في قلبه) بذلك الذنب (نكتة سوداء) ، فإن تاب محيت من قلبه ، فنرى قلب المؤمن مجليا مثل المرآة ، ما يأتيه الشيطان إلا أبصره ، وأما الذي يتتابع في الذنوب ، كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء ، فلا يزال ينكت في قلبه حتى يسود قلبه ، فلا يبصر الشيطان من حيث يأتيه. هذا لفظ ميمون بن مهران عند صاحب القوت ، وأما قول المصنف: فإن هو نزع. . . إلخ. هو بقية حديث مرفوع قال صاحب القوت: وقد روى أبو صالح عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء " (فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل) قلبه ، (وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الرين) كذا في النسخ ، والصواب: فهو الران الذي ذكره الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قلت: وقد رواه كذلك أحمد وعبد بن حميد والترمذي والحاكم وصححاه ، والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن حبان وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب ، وأما قول ميمون بن مهران فهو كالمبين لهذا الحديث ، وقد روى حذيفة في تفسير هذه الآية نحوه ، أخرجه الفريابي والبيهقي في الشعب ، ويروى عن ابن عمر مرفوعا قال: " أعمال السوء ذنب على ذنب حتى مات قلبه واسود " وأخرجه نعيم بن حماد في الفتن والحاكم وصححه وتعقب ، وقال مجاهد: أي أثبتت على قلبه الخطايا حتى غيرته. أخرجه عبد بن حميد ، وقال ابن عباس: ران أي: طبع ، أخرجه ابن جرير وقال مجاهد: الرين اليسر من الطبع ، والطبع اليسر من الإقفال ، والإقفال أشد ذلك كله ، أخرجه ابن جرير ، وأخرج عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " أربع خصال تفسد القلوب: مجاراة الأحمق؛ فإن جاريته كنت مثله ، وإن سكت عنه سلمت منه ، وكثرة الذنوب مفسدة القلوب ، وقد قال تعالى: بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون والخلوة بالنساء والاستماع منهن والعمل برأيهن ، ومجالسة الموتى. قيل: وما الموتى؟ قال: غني قد أبطره غناه " .

(وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر، وقلب الكافر أسود منكوس) ولفظ القوت: وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قلب المؤمن أجرد فيه سراج

[ ص: 230 ] يزهر في تقسيمه القلوب اهـ، وهو من بعض الحديث الذي يأتي ذكره بعد (فطاعة الله تعالى بمخالفة الشهوات مصقلات للقلب ، ومعاصيه مسودات له ، فمن أقبل على المعاصي اسود قلبه) ثلثه أو ربعه أو نصفه ، فإن داوم عليه اسود كله (ومن أتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه ، ولكن ينقص نوره فهو كالمرآة يتنفس فيها ، ثم تمسح ويتنفس، ثم تمسح فإنها) تجلى ، لكنها (لا تخلو عن كدورة ، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر) أي: يلمع (فذلك قلب المؤمن ، وقلب أسود منكوس) أي: مقلوب، أعلاه أسفله وأسفله أعلاه (فذلك قلب الكافر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق ، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد ، فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها ، وفي رواية ذهبت به) . . . إلخ . قال العراقي : رواه أحمد والطبراني في الصغير من حديث أبي سعيد الخدري اهـ .

قلت: وقال صاحب القوت: وروينا عن أبي سعيد الخدري وأبي كبشة الأنماري وبعضه أيضا عن حذيفة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ساق الحديث كسياق المصنف ، مع ذكر الرواية الثانية ، ورواه صاحب العوارف من حديث حذيفة ، وسياقه كسياق المصنف .

قلت: قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا جرير ، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة، قال: القلوب أربعة: قلب أغلف، فذلك قلب الكافر ، وقلب مصفح؛ فذلك قلب المنافق ، وقلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن ، وقلب فيه نفاق وإيمان فمثل الإيمان كشجرة يمدها ماء طيب ، ومثل النفاق كمثل القرحة يمدها قبح ودم فأيهما غلب عليه غلب ، وقال في ترجمة أبي البختري: حدثنا سلمان بن أحمد ، حدثنا موسى بن عيسى بن المنذر الحمصي ، حدثنا أحمد بن خالد الوهبي ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن النحوي ، عن ليث بن أبي سليم عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة، وأرسله (وقد قال الله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون فأخبر أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر) ولفظ القوت: إن جلاء القلب الذكر؛ به يبصر القلب (وإنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا ، فالتقوى باب الذكر ، والذكر باب الكشف ، والكشف باب الفوز الأكبر ، وهو الفوز بلقاء الله تعالى) ولفظ القوت: : وإن باب الذكر التقوى، به يذكر العبد ، فالتقوى باب الآخرة كما أن الهوى باب الدنيا ، وأمر الله تعالى بالذكر ، وأخبر أنه مفتاح التقوى؛ لأنه سبب الاجتناب وهو الاتقاء وهو الورع؛ فقال تعالى:واذكروا ما فيه لعلكم تتقون وأخبر تعالى أنه أظهر البيان للتقوى في قوله عز وجل: كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون .




الخدمات العلمية