بيان شواهد النقل من أرباب البصائر ، وشواهد الشرع على أن الطريق في
nindex.php?page=treesubj&link=29558معالجة أمراض القلب ترك الشهوات وأن مادة أمراضها هي اتباع الشهوات .
اعلم أن ما ذكرناه إن تأملته بعين الاعتبار انفتحت بصيرتك وانكشف لك علل القلوب وأمراضها وأدويتها بنور العلم واليقين .
فإن ، عجزت عن ذلك فلا ينبغي أن يفوتك التصديق والإيمان على سبيل التلقي والتقليد لمن يستحق التقليد فإن للإيمان درجة كما أن للعلم درجة ، والعلم يحصل بعد الإيمان ، وهو وراءه قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=11يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات فمن صدق بأن مخالفة الشهوات هي الطريق إلى الله عز وجل ولم يطلع على سببه وسره ، فهو من الذين آمنوا وإذا اطلع على ما ذكرناه من أعوان الشهوات فهو من الذين أوتوا العلم
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=95وكلا وعد الله الحسنى .
والذي يقتضي الإيمان بهذا الأمر في القرآن والسنة وأقاويل العلماء أكثر من أن يحصر ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=40ونهى النفس عن الهوى nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=41فإن الجنة هي المأوى وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى قيل : نزع منها محبة الشهوات وقال - صلى الله عليه وسلم - : "
المؤمن بين خمس شدائد : مؤمن يحسده ، ومنافق يبغضه ، وكافر يقاتله ، وشيطان يضله ، ونفس تنازعه " فبين أن
nindex.php?page=treesubj&link=34273_19523النفس عدو منازع يجب عليه مجاهدتها .
ويروى أن الله تعالى أوحى إلى
داود عليه السلام : يا
داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة وقال
عيسى عليه السلام : طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غائب لم يره
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم لقوم قدموا من الجهاد : مرحبا بكم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قيل يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ? قال : جهاد النفس وقال صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=703671المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل.
وقال -صلى الله عليه وسلم- :
كف أذاك عن نفسك ولا تتابع هواها في معصية الله تعالى إذا تخاصمك يوم القيامة ، فيلعن بعضك بعضا إلا أن يغفر الله تعالى لك ويستر .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ما عالجت شيئا أشد علي من نفسي مرة لي ومرة علي وكان
أبو العباس الموصلي يقول لنفسه يا نفس لا في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين ولا في طلب الآخرة مع العباد تجتهدين ، كأني بك بين الجنة والنار : تحبسين يا نفس ألا تستحين ، وقال الحسن ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17335يحيى بن معاذ الرازي جاهد نفسك بأسياف الرياضة والرياضة على أربع أوجه : القوت من الطعام والغمض من المنام والحاجة من الكلام وحمل الأذى من جميع الأنام فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات ، ومن قلة المنام صفو الإرادات ، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات ، ومن احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات وليس على العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء ، والصبر على الأذى وإذا ، تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام ، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام حتى تنقطع عن الظلم والانتقام فتأمن من بوائقها من بين سائر الأنام وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية فتجول في ميدان الخيرات ، وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفارة في الميدان وكالملك المتنزه في البستان .
وقال أيضا : أعداء الإنسان ثلاثة : دنياه وشيطانه ونفسه ، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها ، ومن الشيطان بمخالفته ومن النفس بترك الشهوات .
قال . بعض الحكماء : من استولت عليه النفس صار أسيرا في حب شهواتها محصورا في سجن هواها مقهورا مغلولا زمامه في يدها تجره حيث شاءت فتمنع ، قلبه من الفوائد وقال
جعفر بن حميد أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يدرك إلا بترك النعيم وقال
أبو يحيى الوراق من أرضى الجوارح بالشهوات فقد غرس في قلبه شجر الندامات ، وقال
وهيب بن الورد ما زاد على الخبز فهو شهوة ، وقال أيضا من أحب شهوات الدنيا فليتهيأ للذل .
ويروى أن امرأة العزيز قالت
ليوسف عليه السلام بعد أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابية الطريق في يوم موكبه وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفا من عظماء مملكته، سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم له : إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبيدا وذلك جزاء المفسدين ، وإن الصبر والتقوى صيرا العبيد ملوكا ، فقال
يوسف كما أخبر الله تعالى عنه :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=90إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .
وقال
الجنيد أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد الحلاوة التي كنت أجدها فأردت أن أنام فلم أقدر فجلست فلم أطق الجلوس فخرجت فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق فلما أحس بي قال : يا
أبا القاسم إلى الساعة فقلت يا سيدي من غير موعد قال : بلى سألت الله عز وجل أن يحرك لي قلبك فقلت : قد فعل فما حاجتك قال فمتى ؟ : يصير داء النفس دواءها ? فقلت : إذا خالفت النفس هواها فأقبل على نفسه فقال : اسمعي فقد أجبتك بهذا سبع مرات فأبيت أن تسمعيه إلا من
الجنيد ها قد سمعتيه ثم انصرف وما عرفته وقال
يزيد الرقاشي إليكم عني الماء البارد في الدنيا ، لعلي لا أحرمه في الآخرة .
وقال رجل
nindex.php?page=showalam&ids=16673لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى متى أتكلم ? قال : إذا اشتهيت الصمت . قال متى : أصمت ? قال : إذا اشتهيت الكلام .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه : من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا .
وكان
nindex.php?page=showalam&ids=16871مالك بن دينار يطوف في السوق فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه : اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك علي .
فإذن قد اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات ، فالإيمان بهذا واجب .
وأما علم تفصيل ما يترك من الشهوات وما لا يترك فلا يدرك إلا بما قدمناه .
وحاصل الرياضة وسرها أن لا تتمتع النفس بشيء مما لا يوجد في القبر إلا بقدر الضرورة فيكون مقتصرا من الأكل والنكاح واللباس والمسكن وكل ما هو مضطر إليه على قدر الحاجة والضرورة فإنه لو تمتع بشيء منه أنس به وألفه فإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا بسببه ، ولا يتمنى الرجوع إلى الدنيا إلا من لا حظ له في الآخرة بحال ولا خلاص منه إلا بأن يكون القلب مشغولا بمعرفة الله وحبه والتفكر فيه والانقطاع إليه ولا قوة على ذلك إلا بالله ، ويقتصر من الدنيا على ما يدفع عوائق الذكر والفكر فقط .
فمن لم يقدر على حقيقة ذلك فليقرب منه والناس ، فيه أربعة: رجل مستغرق قلبه بذكر الله فلا يلتفت إلى الدنيا إلا في ضرورات المعيشة فهو من الصديقين .
ولا ينتهي إلى هذه الرتبة إلا بالرياضة الطويلة والصبر عن الشهوات مدة مديدة .
الثاني رجل استغرقت الدنيا قلبه ولم يبق لله تعالى ذكر في قلبه إلا من حيث حديث النفس ، حيث يذكره باللسان لا بالقلب فهذا من الهالكين .
والثالث : رجل اشتغل بالدنيا والدين ولكن ، الغالب على قلبه هو الدين ، فهذا لا بد له من ورود النار إلا أنه ينجو منها سريعا بقدر غلبة ذكر الله تعالى على قلبه .
والرابع : رجل اشتغل بهما جميعا ، لكن الدنيا أغلب على قلبه ، فهذا يطول مقامه في النار لكن ، يخرج منها لا محالة لقوة ذكر الله تعالى في قلبه وتمكنه من صميم فؤاده ، وإن كان ذكر الدنيا أغلب على قلبه .
اللهم إنا نعوذ بك من خزيك فإنك أنت المعاذ .
وربما يقول القائل : إن التنعم بالمباح مباح ، فكيف يكون التنعم سبب البعد من الله عز وجل وهذا خيال ضعيف ، بل
nindex.php?page=treesubj&link=29497حب الدنيا رأس كل خطيئة وسبب إحباط كل حسنة والمباح الخارج عن قدر الحاجة أيضا من الدنيا وهو سبب البعد ، وسيأتي ذلك في كتاب ذم الدنيا وقد قال
إبراهيم الخواص كنت مرة في
جبل اللكام فرأيت رمانا فاشتهيته فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركتها فرأيت رجلا مطروحا وقد اجتمعت عليه الزنابير فقلت : السلام عليك ، فقال : وعليك السلام ، يا
إبراهيم . فقلت كيف عرفتني ? فقال : من عرف الله عز وجل لم يخف عليه شيء فقلت أرى لك حالا مع الله عز وجل فلو سألته أن يحميك من هذه الزنابير فقال وأرى لك حالا مع الله تعالى فلو سألته أن يحميك من شهوة الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة ، ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا فتركته ومضيت .
وقال
السري أنا منذ أربعين سنة تطالبني نفسي أن أغمس خبزة في دبس فما أطعتها .
فإذن
nindex.php?page=treesubj&link=29558لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعم بالمباح ، فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات فمن أراد حفظ لسانه عن الغيبة والفضول فحقه أن يلزمه السكوت إلا عن ذكر الله وإلا عن المهمات في الدين حتى تموت منه شهوة الكلام فلا يتكلم إلا بحق فيكون سكوته عبادة وكلامه عبادة .
ومهما اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ عن النظر إلى ما لا يحل وكذلك سائر الشهوات لأن الذي يشتهى به الحلال هو بعينه الذي يشتهي الحرام ، فالشهوة واحدة ، وقد وجب على العبد منعها من الحرام ، فإن لم يعودها الاقتصاد على قدر الضرورة من الشهوات غلبته فهذه إحدى آفات المباحات .ووراءها آفات عظيمة أعظم من هذه وهو أن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا ، وتركن إليها وتطمئن إليها أشرا وبطرا حتى تصير ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره ، وذلك الفرح بالدنيا سم قاتل يسري في العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن : وذكر الموت وأهوال يوم القيامة ، وهذا هو
nindex.php?page=treesubj&link=29556موت القلب قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=7ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=26وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد الآية ، وكل ذلك ذم لها فنسأل الله السلامة .
فأولو الحزم من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حال الفرح بمؤاتاة الدنيا فوجدوها قاسية نفرة بعيدة التأثر عن ذكر الله واليوم الآخر وجربوها في حالة الحزن فوجدوها لينة رقيقة صافية قابلة لأثر الذكر ، فعلموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعد من أسباب الفرح والبطر ففطموها عن ملاذها وعودوها الصبر عن شهواتها حلالها وحرامها وعلموا أن حلالها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب وهو نوع عذاب ، فمن نوقش الحساب في عرصات القيامة فقد عذب فخلصوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية والملك الدائم في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسر الشهوات ورقها ، والأنس بذكر الله عز وجل ، والاشتغال بطاعته وفعلوا بها ما يفعل بالبازي إذا قصد تأديبه ونقله من التوثب والاستيحاش إلى الانقياد والتأديب فإنه يحبس أولا في بيت مظلم وتخاط عيناه حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جو الهواء ، وينسى ما قد كان ألفه من طبع الاسترسال ثم يرفق باللحم حتى يأنس بصاحبه ويألفه إلفا ، إذا دعاه أجابه ، ومهما سمع صوته رجع إليه فكذلك النفس لا تألف ربها ، ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عادتها بالخلوة والعزلة أولا ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات ثم عودت الثناء والذكر والدعاء ثانيا في الخلوة حتى يغلب عليها الأنس بذكر الله عز وجل عوضا عن الأنس بالدنيا وسائر الشهوات ، وذلك يثقل على المريد في البداية ثم يتنعم به في النهاية كالصبي يفطم عن الثدي وهو شديد عليه إذا كان لا يصبر عنه ساعة فلذلك يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام ويشتد نفوره عن الطعام الذي يقدم إليه بدلا عن اللبن ، ولكنه إذا منع اللبن رأسا يوما فيوما وعظم تعبه في الصبر عليه وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفا ثم يصير له طبعا فلو رد بعد ذلك ، إلى الثدي لم يرجع إليه فيهجر الثدي ويعاف اللبن ويألف الطعام ، وكذلك الدابة في الابتداء تنفر عن السرج واللجام والركوب ، فتحمل على ذلك قهرا وتمنع عن السرج الذي ألفته بالسلاسل والقيود أولا ، ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها فتقف فيه من غير قيد فكذلك تؤدب النفس كما تؤدب الطير والدواب وتأديبها بأن تمنع من النظر والأنس والفرح بنعيم الدنيا ، بل بكل ما يزايلها بالموت إذ قيل له : أحبب ما أحببت فإنك مفارقه فإذا علم أنه من أحب شيئا يلزمه فراقه ويشقى لا محالة لفراقه شغل قلبه بحب ما لا يفارقه وهو ذكر الله تعالى فإن ذلك يصحبه في القبر ولا يفارقه ، وكل ذلك يتم بالصبر أولا أياما قلائل فإن العمر ، قليل بالإضافة إلى مدة حياة الآخرة وما من عاقل إلا وهو راض باحتمال المشقة في سفر وتعلم صناعة وغيرها شهرا ليتنعم به سنة أو دهرا وكل ، العمر بالإضافة إلى الأبد أقل من الشهر بالإضافة إلى عمر الدنيا ، فلا بد من الصبر والمجاهدة ، فعند الصباح يحمد القوم السرى وتذهب عنهم عمايات الكرى كما قاله علي رضي الله عنه وطريق المجاهدة والرياضة لكل إنسان تختلف بحسب اختلاف أحواله .
والأصل فيه أن يترك كل واحد ما به فرحه من أسباب الدنيا ، فالذي يفرح بالمال أو بالجاه أو بالقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة الأتباع في التدريس والإفادة فينبغي أن يترك أولا ما به فرحه ، فإنه إن منع عن شيء من ذلك ، وقيل له : ثوابك في الآخرة ، لم ينقص بالمنع فكره ذلك وتألم به ، فهو ممن فرح بالحياة الدنيا واطمأن بها ، وذلك مهلك في حقه ، ثم إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل الناس ولينفرد بنفسه وليراقب قلبه حتى لا يشتغل إلا بذكر الله تعالى والفكر فيه وليترصد لما يبدو في نفسه من شهوة ووسواس حتى يقمع مادته مهما ظهر ؛ فإن لكل وسوسة سببا ولا تزول إلا بقطع ذلك السبب والعلاقة وليلازم ذلك بقية العمر فليس للجهاد آخر إلا بالموت .
.
بَيَانُ شَوَاهِدِ النَّقْلِ مِنْ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ ، وَشَوَاهِدِ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=29558مُعَالَجَةِ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَأَنَّ مَادَّةَ أَمْرَاضِهَا هِيَ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ .
اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ إِنْ تَأَمَّلْتَهُ بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ انْفَتَحَتْ بَصِيرَتُكَ وَانْكَشَفَ لَكَ عِلَلُ الْقُلُوبِ وَأَمْرَاضُهَا وَأَدْوِيَتُهَا بِنُورِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ .
فَإِنْ ، عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفُوتَكَ التَّصْدِيقُ وَالْإِيمَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّلَقِّي وَالتَّقْلِيدِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ التَّقْلِيدَ فَإِنَّ لِلْإِيمَانِ دَرَجَةً كَمَا أَنَّ لِلْعِلْمِ دَرَجَةً ، وَالْعِلْمُ يَحْصُلُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، وَهُوَ وَرَاءَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=11يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ فَمَنْ صَدَّقَ بِأَنَّ مُخَالِفَةَ الشَّهَوَاتِ هِيَ الطَّرِيقُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى سَبَبِهِ وَسِرِّهِ ، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَعْوَانِ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=95وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى .
وَالَّذِي يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ وَأَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=40وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=41فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى قِيلَ : نَزَعَ مِنْهَا مَحَبَّةَ الشَّهَوَاتِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
الْمُؤْمِنُ بَيْنَ خَمْسِ شَدَائِدَ : مُؤْمِنٍ يَحْسُدُهُ ، وَمُنَافِقٍ يُبْغِضُهُ ، وَكَافِرٍ يُقَاتِلُهُ ، وَشَيْطَانٍ يُضِلُّهُ ، وَنَفْسٍ تَنَازُعِهِ " فَبَيَّنَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=34273_19523النَّفْسَ عَدُوٌّ مُنَازِعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ مُجَاهَدَتُهَا .
وَيُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا
دَاوُدُ حَذِّرْ وَأَنْذِرْ أَصْحَابَكَ أَكَلَ الشَّهَوَاتِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عُقُولِهَا عَنِّي مَحْجُوبَةٌ وَقَالَ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : طُوبَى لِمَنْ تَرَكَ شَهْوَةً حَاضِرَةً لِمَوْعُودٍ غَائِبٍ لَمْ يَرَهُ
وَقَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ قَدِمُوا مِنَ الْجِهَادِ : مَرْحَبًا بِكُمْ قَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ ? قَالَ : جِهَادُ النَّفْسِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=703671الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :
كُفَّ أَذَاكَ عَنْ نَفْسِكَ وَلَا تُتَابِعْ هَوَاهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تُخَاصِمُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَلْعَنُ بَعْضُكَ بَعْضًا إِلَّا أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَ وَيَسْتُرَ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16004سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي مَرَّةً لِي وَمَرَّةً عَلِيِّ وَكَانَ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَوْصِلِيُّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ يَا نَفْسُ لَا فِي الدُّنْيَا مَعَ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ تَتَنَعَّمِينَ وَلَا فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ مَعَ الْعُبَّادِ تَجْتَهِدِينَ ، كَأَنِّي بِكَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ : تُحْبَسِينَ يَا نَفْسُ أَلَّا تَسْتَحِينَ ، وَقَالَ الْحَسَنُ مَا الدَّابَّةُ الْجُمُوحُ بِأَحْوَجَ إِلَى اللِّجَامِ الشَّدِيدِ مِنْ نَفْسِكَ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17335يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ جَاهِدْ نَفْسَكَ بِأَسْيَافِ الرِّيَاضَةِ وَالرِّيَاضَةُ عَلَى أَرْبَعِ أَوْجُهٍ : الْقُوتُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْغَمْضُ مِنَ الْمَنَامِ وَالْحَاجَةُ مِنَ الْكَلَامِ وَحَمْلُ الْأَذَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ مَوْتُ الشَّهَوَاتِ ، وَمِنْ قِلَّةِ الْمَنَامِ صَفْوُ الْإِرَادَاتِ ، وَمِنْ قِلَّةِ الْكَلَامِ السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ ، وَمِنِ احْتِمَالِ الْأَذَى الْبُلُوغُ إِلَى الْغَايَاتِ وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَفَاءِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَإِذَا ، تَحَرَّكَتْ مِنَ النَّفْسِ إِرَادَةُ الشَّهَوَاتِ وَالْآثَامِ وَهَاجَتْ مِنْهَا حَلَاوَةُ فُضُولِ الْكَلَامِ جَرَّدْتُ سُيُوفَ قِلَّةِ الطَّعَامِ مِنْ غِمْدِ التَّهَجُّدِ وَقِلَّةِ الْمَنَامِ ، وَضَرْبَتُهَا بِأَيْدِي الْخُمُولِ وَقِلَّةِ الْكَلَامِ حَتَّى تَنْقَطِعَ عَنِ الظُّلْمِ وَالِانْتِقَامِ فَتَأْمَنُ مِنْ بَوَائِقِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنَامِ وَتُصَفِّيهَا مِنْ ظُلْمَةِ شَهَوَاتِهَا فَتَنْجُو مِنْ غَوَائِلِ آفَاتِهَا فَتَصِيرُ عِنْدَ ذَلِكَ نَظِيفَةً وَنُورِيَّةً خَفِيفَةً رُوحَانِيَّةً فَتَجُولُ فِي مَيْدَانِ الْخَيِّرَاتِ ، وَتَسِيرُ فِي مَسَالِكَ الطَّاعَاتِ كَالْفَرَسِ الْفَارَّةِ فِي الْمَيْدَانِ وَكَالْمَلِكِ الْمُتَنَزِّهِ فِي الْبُسْتَانِ .
وَقَالَ أَيْضًا : أَعْدَاءُ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةٌ : دُنْيَاهُ وَشَيْطَانُهُ وَنَفْسُهُ ، فَاحْتَرِسْ مِنَ الدُّنْيَا بِالزُّهْدِ فِيهَا ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ بِمُخَالَفَتِهِ وَمِنَ النَّفْسِ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ .
قَالَ . بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ صَارَ أَسِيرًا فِي حُبِّ شَهَوَاتِهَا مَحْصُورًا فِي سِجْنِ هَوَاهَا مَقْهُورًا مَغْلُولًا زِمَامُهُ فِي يَدِهَا تَجُرُّهُ حَيْثُ شَاءَتْ فَتَمْنَعُ ، قَلْبَهُ مِنْ الْفَوَائِدِ وَقَالَ
جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ وَالْحُكَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّعِيمَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِتَرْكِ النَّعِيمِ وَقَالَ
أَبُو يَحْيَى الْوَرَّاقُ مَنْ أَرْضَى الْجَوَارِحَ بِالشَّهَوَاتِ فَقَدْ غَرَسَ فِي قَلْبِهِ شَجَرَ النَّدَامَاتِ ، وَقَالَ
وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ مَا زَاد عَلَى الْخُبْزِ فَهُوَ شَهْوَةٌ ، وَقَالَ أَيْضًا مَنْ أَحَبَّ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا فَلْيَتَهَيَّأْ لِلذُّلِّ .
وَيُرْوَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزَ قَالَتْ
لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ خَزَائِنَ الْأَرْضِ وَقَعَدَتْ لَهُ عَلَى رَابِيَةِ الطَّرِيق فِي يَوْمِ مَوْكِبِهِ وَكَانَ يَرْكَبُ فِي زُهَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ عُظَمَاءِ مَمْلَكَتِهِ، سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ الْمُلُوكَ عَبِيدًا بِالْمَعْصِيَةِ وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُلُوكًا بِطَاعَتِهِمْ لَهُ : إِنَّ الْحِرْصَ وَالشَّهْوَةَ صَيَّرَا الْمُلُوكَ عَبِيدًا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُفْسِدِينَ ، وَإِنَّ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى صَيَّرَا الْعَبِيدَ مُلُوكًا ، فَقَالَ
يُوسُفُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=90إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ .
وَقَالَ
الْجُنَيْدُ أَرِقَتْ لَيْلَةً فَقُمْتُ إِلَى وَرْدِي فَلَمْ أَجِدِ الْحَلَاوَةَ الَّتِي كُنْتُ أَجِدُهَا فَأَرَدْتُ أَنْ أَنَامَ فَلَمْ أَقْدِرْ فَجَلَسْتُ فَلَمْ أُطِقِ الْجُلُوسَ فَخَرَجْتُ فَإِذَا رَجُلٌ مُلْتَفٌّ فِي عَبَاءَةٍ مَطْرُوحٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَلَمَّا أَحَسَّ بِي قَالَ : يَا
أَبَا الْقَاسِمِ إِلَى السَّاعَةَ فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي مِنْ غَيْرِ مَوْعِدٍ قَالَ : بَلَى سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُحَرِّكَ لِي قَلْبَكَ فَقُلْتُ : قَدْ فَعَلَ فَمَا حَاجَتُكَ قَالَ فَمَتَى ؟ : يَصِيرُ دَاءُ النَّفْسِ دَوَاءَهَا ? فَقُلْتُ : إِذَا خَالَفَتِ النَّفْسُ هَوَاهَا فَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : اسْمَعِي فَقَدْ أَجَبْتُكِ بِهَذَا سَبْعَ مَرَّاتٍ فَأَبَيْتِ أَنْ تَسْمَعِيهِ إِلَّا مِنَ
الْجُنَيْدِ هَا قَدْ سَمِعْتِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَمَا عَرَفَتْهُ وَقَالَ
يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ إِلَيْكُمْ عَنِّي الْمَاءَ الْبَارِدَ فِي الدُّنْيَا ، لَعَلِّي لَا أُحْرَمُهُ فِي الْآخِرَةِ .
وَقَالَ رَجُلٌ
nindex.php?page=showalam&ids=16673لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَتَى أَتَكَلَّمُ ? قَالَ : إِذَا اشْتَهَيْتَ الصَّمْتَ . قَالَ مَتَى : أَصْمُتُ ? قَالَ : إِذَا اشْتَهَيْتَ الْكَلَامَ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلَا عَنِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا .
وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=16871مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَطُوفُ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَأَى الشَّيْءَ يَشْتَهِيهِ قَالَ لِنَفْسِهِ : اصْبِرِي فَوَاللَّهِ مَا أَمْنَعُكِ إِلَّا مِنْ كَرَامَتِكِ عَلَيَّ .
فَإِذَنْ قَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ وَالْحُكَمَاءُ عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِنَهْيِ النَّفْسِ عَنِ الْهَوَى وَمُخَالَفَةِ الشَّهَوَاتِ ، فَالْإِيمَانُ بِهَذَا وَاجِبٌ .
وَأَمَّا عِلْمُ تَفْصِيلِ مَا يُتْرَكُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَمَا لَا يُتْرَكُ فَلَا يُدْرَكُ إِلَّا بِمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَحَاصِلُ الرِّيَاضَةِ وَسِرُّهَا أَنْ لَا تَتَمَتَّعُ النَّفْسُ بِشَيْءٍ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي الْقَبْرِ إِلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَيَكُونُ مُقْتَصِرًا مِنَ الْأَكْلِ وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَكُلُّ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَوْ تَمَتَّعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَنْسَ بِهِ وَأَلِفَهُ فَإِذَا مَاتَ تَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا بِسَبَبِهِ ، وَلَا يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ بِحَالٍ وَلَا خَلَاصَ مِنْهُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَحُبِّهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ ، وَيَقْتَصِرُ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَا يَدْفَعُ عَوَائِقَ الذَّكَرِ وَالْفِكْرِ فَقَطْ .
فَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَلْيَقْرُبْ مِنْهُ وَالنَّاسُ ، فِيهِ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُسْتَغْرِقٌ قَلْبُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا فِي ضَرُورَاتِ الْمَعِيشَةِ فَهُوَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ .
وَلَا يَنْتَهِي إِلَى هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَّا بِالرِّيَاضَةِ الطَّوِيلَةِ وَالصَّبْرِ عَنِ الشَّهَوَاتِ مُدَّةً مَدِيدَةً .
الثَّانِي رَجُلٌ اسْتَغْرَقَتِ الدُّنْيَا قَلَبَهُ وَلَمْ يَبْقَ لِلَّهِ تَعَالَى ذِكْرٌ فِي قَلْبِهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ حَدِيثِ النَّفْسِ ، حَيْثُ يَذْكُرُهُ بِاللِّسَانِ لَا بِالْقَلْبِ فَهَذَا مِنَ الْهَالِكِينَ .
وَالثَّالِثُ : رَجُلٌ اشْتَغَلَ بِالدُّنْيَا وَالدِّينِ وَلَكِنْ ، الْغَالِبَ عَلَى قَلْبِهِ هُوَ الدِّينُ ، فَهَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وُرُودِ النَّارِ إِلَّا أَنَّهُ يَنْجُو مِنْهَا سَرِيعًا بِقَدْرِ غَلَبَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَلْبِهِ .
وَالرَّابِعُ : رَجُلٌ اشْتَغَلَ بِهِمَا جَمِيعًا ، لَكِنِ الدُّنْيَا أَغْلَبُ عَلَى قَلْبِهِ ، فَهَذَا يَطُولُ مَقَامُهُ فِي النَّارِ لَكِنْ ، يَخْرُجُ مِنْهَا لَا مَحَالَةَ لِقُوَّةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ صَمِيمِ فُؤَادِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ الدُّنْيَا أَغْلَبَ عَلَى قَلْبِهِ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ خِزْيِكَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْمُعَاذُ .
وَرُبَّمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : إِنَّ التَّنَعُّمَ بِالْمُبَاحِ مُبَاحٌ ، فَكَيْفَ يَكُونُ التَّنَعُّمُ سَبَبُ الْبُعْدِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا خَيَالٌ ضَعِيفٌ ، بَلْ
nindex.php?page=treesubj&link=29497حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَسَبَبُ إِحْبَاطِ كُلِّ حَسَنَةٍ وَالْمُبَاحُ الْخَارِجُ عَنْ قَدَرِ الْحَاجَةِ أَيْضًا مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ سَبَبُ الْبُعْدِ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كُتَّابِ ذَمِّ الدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ
إِبْرَاهِيمَ الْخَوَاصَّ كُنْتُ مَرَّةً فِي
جَبَلِ اللُّكَامِ فَرَأَيْتُ رُمَّانًا فَاشْتَهَيْتُهُ فَأَخَذْتُ مِنْهُ وَاحِدَةً فَشَقَقْتُهَا فَوَجَدْتُهَا حَامِضَةً فَمَضَيْتُ وَتَرَكْتُهَا فَرَأَيْتُ رَجُلًا مَطْرُوحًا وَقَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الزَّنَابِيرُ فَقُلْتُ : السَّلَامُ عَلَيْكَ ، فَقَالَ : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ، يَا
إِبْرَاهِيمُ . فَقُلْتُ كَيْفَ عَرَفْتَنِي ? فَقَالَ : مَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَقُلْتُ أَرَى لَكَ حَالًا مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَوْ سَأَلْتَهُ أَنْ يَحْمِيَكَ مِنْ هَذِهِ الزَّنَابِيرِ فَقَالَ وَأَرَى لَكَ حَالًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ سَأَلْتَهُ أَنْ يَحْمِيَكَ مِنْ شَهْوَةَ الرُّمَّانِ فَإِنَّ لَدْغَ الرُّمَّانِ يَجِدُّ الْإِنْسَانُ أَلَمَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَدْغَ الزَّنَابِيرِ يَجِدُ أَلَمَهُ فِي الدُّنْيَا فَتَرَكْتُهُ وَمَضَيْتُ .
وَقَالَ
السِّرِيَّ أَنَا مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً تُطَالِبُنِي نَفْسِي أَنَّ أَغْمِسَ خُبْزَةً فِي دِبْسٍ فَمَا أَطَعْتهَا .
فَإِذَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29558لَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُ الْقَلْبِ لِسُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ مَا لَمْ يَمْنَعْ نَفْسَهُ عَنْ التَّنَعُّمِ بِالْمُبَاحِ ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا لَمْ تُمْنَعُ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ طَمِعَتْ فِي الْمَحْظُورَاتِ فَمَنْ أَرَادَ حِفْظَ لِسَانِهِ عَنِ الْغَيْبَةِ وَالْفُضُولِ فَحَقُّهُ أَنْ يُلْزِمَهُ السُّكُوتَ إِلَّا عَنِ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَّا عَنِ الْمُهِمَّاتِ فِي الدِّينِ حَتَّى تَمُوتَ مِنْهُ شَهْوَةُ الْكَلَامِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِحَقٍّ فَيَكُونُ سُكُوتُهُ عِبَادَةً وَكَلَامُهُ عِبَادَةً .
وَمَهْمَا اعْتَادَتِ الْعَيْنُ رَمْيَ الْبَصَرِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ جَمِيلٍ لَمْ تَتَحَفَّظْ عَنْ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّهَوَاتِ لِأَنَّ الَّذِي يُشْتَهَى بِهِ الْحَلَالُ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي يَشْتَهِي الْحَرَامَ ، فَالشَّهْوَةُ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ مَنْعُهَا مِنَ الْحَرَامِ ، فَإِنْ لَمْ يُعَوِّدْهَا الِاقْتِصَادَ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنَ الشَّهَوَاتِ غَلَبَتْهُ فَهَذِهِ إِحْدَى آفَاتِ الْمُبَاحَاتِ .وَوَرَاءَهَا آفَاتٌ عَظِيمَةٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ وَهُوَ أَنَّ النَّفْسَ تَفْرَحُ بِالتَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا ، وَتَرْكَنُ إِلَيْهَا وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا أَشَرًا وَبَطَرًا حَتَّى تَصِيرَ ثَمِلَةٌ كَالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يُفِيقُ مِنْ سُكْرِهِ ، وَذَلِكَ الْفَرَحُ بِالدُّنْيَا سُمٌّ قَاتِلٌ يَسْرِي فِي الْعُرُوقِ فَيُخْرِجُ مِنَ الْقَلْبِ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ : وَذِكْرَ الْمَوْتِ وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=29556مَوْتُ الْقَلْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=7وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=26وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ الْآيَةَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ ذَمٌّ لَهَا فَنَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ .
فَأُولُو الْحَزْمِ مِنْ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ جَرَّبُوا قُلُوبَهُمْ فِي حَال الْفَرَحِ بِمُؤَاتَاةِ الدُّنْيَا فَوَجَدُوهَا قَاسِيَةً نَفِرَةً بَعِيدَةَ التَّأَثُّرِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَرَّبُوهَا فِي حَالَةِ الْحُزْنِ فَوَجَدُوهَا لَيِّنَةً رَقِيقَةً صَافِيَةً قَابِلَةً لِأَثَرِ الذِّكْرِ ، فَعَلِمُوا أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْحُزْنِ الدَّائِمِ وَالتَّبَاعُدِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَرَحِ وَالْبَطَرِ فَفَطَمُوهَا عَنْ مَلَاذِّهَا وَعَوَّدُوهَا الصَّبْرَ عَنْ شَهَوَاتِهَا حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا وَعَلِمُوا أَنَّ حَلَالَهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عِقَابٌ وَمُتَشَابِهُهَا عِتَابٌ وَهُوَ نَوْعُ عَذَابٍ ، فَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَقَدْ عُذِّبَ فَخَلَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وَتَوَصَّلُوا إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْمُلْكِ الدَّائِمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالْخَلَاصِ مِنْ أَسْرِ الشَّهَوَاتِ وَرِقِّهَا ، وَالْأُنْسِ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالِاشْتِغَالِ بِطَاعَتِهِ وَفَعَلُوا بِهَا مَا يُفْعَلُ بِالْبَازِي إِذَا قُصِدَ تَأْدِيبُهُ وَنَقْلُهُ مِنَ التَّوَثُّبِ وَالِاسْتِيحَاشِ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالتَّأْدِيبِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ أَوَّلًا فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَتُخَاطُ عَيْنَاهُ حَتَّى يَحْصُلَ بِهِ الْفِطَامُ عَنِ الطَّيَرَانِ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ ، وَيَنْسَى مَا قَدْ كَانَ أَلِفَهُ مِنْ طَبْعِ الِاسْتِرْسَالِ ثُمَّ يُرْفَقُ بِاللَّحْمِ حَتَّى يَأْنَسَ بِصَاحِبِهِ وَيَأْلَفَهُ إِلْفًا ، إِذَا دَعَاهُ أَجَابَهُ ، وَمَهْمَا سَمِعَ صَوْتَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ لَا تَأْلَفُ رَبَّهَا ، وَلَا تَأْنَسُ بِذِكْرِهِ إِلَّا إِذَا فُطِمَتْ عَنْ عَادَتِهَا بِالْخَلْوَةِ وَالْعُزْلَةِ أَوَّلًا لِيَحْفَظَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ عَنِ الْمَأْلُوفَاتِ ثُمَّ عُوِّدَتِ الثَّنَاءَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ثَانِيًا فِي الْخَلْوَةِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهَا الْأُنْسُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِوَضًا عَنِ الْأُنْسِ بِالدُّنْيَا وَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ ، وَذَلِكَ يَثْقُلُ عَلَى الْمُرِيدِ فِي الْبِدَايَةِ ثُمَّ يَتَنَعَّمُ بِهِ فِي النِّهَايَةِ كَالصَّبِيِّ يُفْطَمُ عَنِ الثَّدْيِ وَهُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ سَاعَةً فَلِذَلِكَ يَشْتَدُّ بُكَاؤُهُ وَجَزَعُهُ عِنْدَ الْفِطَامِ وَيَشْتَدُّ نُفُورُهُ عَنِ الطَّعَامِ الَّذِي يُقَدَّمُ إِلَيْهِ بَدَلًا عَنِ اللَّبَنِ ، وَلَكِنَّهُ إِذَا مُنِعَ اللَّبَنُ رَأْسًا يَوْمًا فَيَوْمًا وَعَظُمَ تَعَبُهُ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَغَلَبَهُ الْجُوعُ تَنَاوَلَ الطَّعَامَ تَكَلُّفًا ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ طَبْعًا فَلَوْ رُدَّ بَعْدَ ذَلِكَ ، إِلَى الثَّدْيِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ فَيَهْجُرُ الثَّدْيَ وَيَعَافُ اللَّبَنَ وَيَأْلَفُ الطَّعَامَ ، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ تَنْفِرُ عَنِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالرُّكُوبِ ، فَتُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ قَهْرًا وَتُمْنَعُ عَنِ السَّرْجِ الَّذِي أَلِفَتْهُ بِالسَّلَاسِلِ وَالْقُيُودِ أَوَّلًا ، ثُمَّ تَأْنَسُ بِهِ بِحَيْثُ تَتْرُكُ فِي مَوْضِعِهَا فَتَقِفُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ فَكَذَلِكَ تُؤَدَّبُ النَّفْسُ كَمَا تُؤَدَّبُ الطَّيْرُ وَالدَّوَابُّ وَتَأْدِيبُهَا بِأَنْ تُمْنَعَ مِنَ النَّظَرِ وَالْأُنْسِ وَالْفَرَحِ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا ، بَلْ بِكُلِّ مَا يُزَايِلُهَا بِالْمَوْتِ إِذْ قِيلَ لَهُ : أَحْبِبْ مَا أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا يَلْزَمُهُ فِرَاقُهُ وَيَشْقَى لَا مَحَالَةَ لِفِرَاقِهِ شَغَلَ قَلْبَهَ بِحُبِّ مَا لَا يُفَارِقُهُ وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ يَصْحَبُهُ فِي الْقَبْرِ وَلَا يُفَارِقُهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتِمُّ بِالصَّبْرِ أَوَّلًا أَيَّامًا قَلَائِلَ فَإِنَّ الْعُمْرَ ، قَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُدَّةِ حَيَاةِ الْآخِرَةِ وَمَا مِنْ عَاقِلٍ إِلَّا وَهُوَ رَاضٍ بِاحْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي سَفَرٍ وَتَعَلُّمِ صِنَاعَةٍ وَغَيْرِهَا شَهْرًا لِيَتَنَعَّمَ بِهِ سَنَةً أَوْ دَهْرًا وَكُلُّ ، الْعُمْرِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَبَدِ أَقَلُّ مِنَ الشَّهْرِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عُمْرِ الدُّنْيَا ، فَلَا بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ ، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى وَتَذْهَبُ عَنْهُمْ عَمَايَاتُ الْكَرَى كَمَا قَالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَطَرِيقُ الْمُجَاهِدَةِ وَالرِّيَاضَةِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ تَخْتَلِفُ بِحَسْبَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُتْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا بِهِ فَرَحُهُ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا ، فَالَّذِي يَفْرَحُ بِالْمَالِ أَوْ بِالْجَاهِ أَوْ بِالْقَبُولِ فِي الْوَعْظِ أَوْ بِالْعِزِّ فِي الْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ أَوْ بِكَثْرَةِ الْأَتْبَاعِ فِي التَّدْرِيسِ وَالْإِفَادَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ أَوَّلًا مَا بِهِ فَرَحُهُ ، فَإِنَّهُ إِنْ مُنِعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَقِيلَ لَهُ : ثَوَابُكَ فِي الْآخِرَةِ ، لَمْ يَنْقُصْ بِالْمَنْعِ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَتَأَلَّمَ بِهِ ، فَهُوَ مِمَّنْ فَرِحَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنَّ بِهَا ، وَذَلِكَ مُهْلِكٌ فِي حَقِّهِ ، ثُمَّ إِذَا تَرَكَ أَسْبَابَ الْفَرَحِ فَلْيَعْتَزِلِ النَّاسَ وَلِيَنْفَرِدْ بِنَفْسِهِ وَلِيُرَاقِبْ قَلْبَهُ حَتَّى لَا يَشْتَغِلَ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْفِكْرِ فِيهِ وَلِيَتَرَصَّدْ لِمَا يَبْدُو فِي نَفْسِهِ مِنْ شَهْوَةٍ وَوَسْوَاسٍ حَتَّى يَقْمَعَ مَادَّتَهُ مَهْمَا ظَهَرَ ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ وَسْوَسَةٍ سَبَبًا وَلَا تَزُولُ إِلَّا بِقَطْعِ ذَلِكَ السَّبَبِ وَالْعَلَاقَةِ وَلِيُلَازِمْ ذَلِكَ بَقِيَّةَ الْعُمْرِ فَلَيْسَ لِلْجِهَادِ آخِرٌ إِلَّا بِالْمَوْتِ .
.