الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكان سهل بن عبد الله التستري يطوي نيفا وعشرين يوما لا يأكل وكان يكفيه لطعامه في السنة درهم وكان يعظم الجوع ، ويبالغ فيه ، حتى قال : لا يوافي القيامة عمل بر أفضل من ترك فضول الطعام ؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أكله وقال لم ير الأكياس شيئا أنفع من الجوع للدين والدنيا ، وقال لا أعلم شيئا أضر على طلاب الآخرة من الأكل وقال وضعت الحكمة والعلم في الجوع ، ووضعت المعصية والجهل في الشبع وقال ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة الهوى في ترك الحلال ، وقد جاء في الحديث ثلث للطعام فمن زاد عليه فإنما يأكل من حسناته ، وسئل عن الزيادة فقال : لا يجد الزيادة حتى يكون الترك أحب إليه من الأكل ، ويكون إذا جاع ليلة سأل الله أن يجعلها ليلتين ، فإذا كان ذلك وجد الزيادة ، وقال صار الأبدال أبدالا إلا بإخماص البطون والسهر ، والصمت ، والخلوة وقال رأس كل بر نزل من السماء إلى الأرض الجوع ، ورأس كل فجور بينهما الشبع ، وقال من جوع نفسه انقطعت عنه الوساوس وقال إقبال الله عز وجل على العبد بالجوع والسقم والبلاء إلا من شاء الله وقال اعلموا أن هذا زمان لا ينال أحد فيه النجاة إلا بذبح نفسه وقتلها بالجوع والسهر والجهد وقال ما مر على وجه الأرض أحد شرب من هذا الماء حتى روي فسلم من المعصية ، وإن شكر الله تعالى ، فكيف الشبع من الطعام وسئل حكيم بأي قيد أقيد نفسي ؟ قال : قيدها بالجوع والعطش ، وذللها بإخمال الذكر وترك العز ، وصغرها بوضعها تحت أرجل أبناء الآخرة ، واكسرها بترك زي القراء عن ظاهرها وانج من آفاتها بدوام سوء الظن بها ، واصحبها بخلاف هواها وكان عبد الواحد بن زيد يقسم بالله تعالى إن الله تعالى ما صافى أحدا إلا بالجوع ، ولا مشوا على الماء إلا به ، ولا طويت لهم الأرض إلا بالجوع ، ولا تولاهم الله تعالى إلا بالجوع وقال أبو طالب المكي مثل البطن مثل المزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار ، إنما حسن صوته لخفته ورقته لأنه ; أجوف غير ممتلئ وكذلك الجوف إذا خلا كان أعذب للتلاوة ، وأدوم للقيام ، وأقل للمنام ، وقال أبو بكر بن عبد الله المزني ثلاثة يحبهم الله تعالى : رجل قليل النوم ، قليل الأكل ، قليل الراحة .

وروي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحا لم يأكل فخطر بباله الخبز فانقطع ، عن المناجاة ، فإذا رغيف موضوع بين يديه ، فجلس يبكي على فقد المناجاة ، وإذا شيخ قد أظله فقال له عيسى بارك الله فيك : يا ولي الله ، ادع الله تعالى ؛ فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز ، فانقطعت عني فقال الشيخ : اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي بل كان إذا حضر لي شيء أكلته من غير فكر وخاطر . وروي أن موسى عليه السلام لما قربه الله عز وجل نجيا كان قد ترك الأكل أربعين يوما ثلاثين ثم عشرا على ما ورد به القرآن لأنه أمسك بغير تبييت يوما فزيد عشرة لأجل ذلك .

.

التالي السابق


(وكان) أبو محمد (سهل) بن عبد الله (التستري) رحمه الله تعالى (يطوي نيفا وعشرين ليلة لا يأكل) ، وعبارة القوت، وقيل: كان سهل بن عبد الله لا يأكل الطعام إلا في خمسة عشر يوما، فإذا دخل شهر رمضان كان لا يأكل حتى يرى الهلال، وكان يفطر كل ليلة على الماء القراح، (وكان يكفيه لطعامه في السنة درهم) واحد يشتري له به الشعير، فيطحن ويقرص، وكان يأكل كل يوم منه أوقية، كما تقدم ذلك قريبا، (وكان يعظم) شأن (الجوع، ويبالغ فيه، حتى قال: لا يوافي القيامة عمل بر أفضل من ترك فضول الطعام؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أكله) ، والمراد بفضول الطعام ما زاد عن إقامة الصلب لعبادة الله تعالى .

(وقال) أيضا: (لم ير الأكياس) أي: العقلاء (شيئا أنفع من الجوع في الدنيا والدين، وقال) أيضا: (لا أعلم شيئا أضر على طلاب الآخرة من الأكل) أي: لما زاد عن الحاجة، (وقال) أيضا: ( وضعت الحكمة والعلم في الجوع، ووضعت المعصية والجهل في الشبع ) ; لأن العبد إذا شبع تحركت شهواته، وإذا جاع ذل وفترت همته عن كثير من الأمور الدنيوية، وتفرغ القلب للاجتهاد في الطاعات، وناله العلم والحكمة .

قال القشيري في الرسالة: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبيد الله ، حدثنا علي بن الحسن الأرجاني ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الإصطخري بمكة قال: قال سهل بن عبد الله : لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل، وجعل في الجوع العلم والحكمة، (وقال) أيضا: (ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة الهوى في ترك الحلال، وقد قال في الحديث) الذي تقدم ذكره قريبا: (ثلث للطعام) ، وثلث للشراب، وثلث للنفس، (فمن زاد عليه فإنما يأكل من حسناته، وسئل) سهل (عن الزيادة) ما علامتها؟ (فقال: لا يجد الزيادة حتى يكون الترك أحب إليه من الأكل، ويكون [ ص: 393 ] إذا جاع ليلة سأل الله أن يجعلها ليلتين، فإذا كان ذلك وجد الزيادة، وقال) سهل أيضا: (ما صار الأبدال أبدالا إلا بإخماص البطون، والصمت، والسهر والخلوة) ، وهي الأركان الأربعة التي أسست عليها الإرادة .

ولفظ القوت: وقال سهل رحمه الله تعالى: اجتمع الخير كله في هذه الأربع خصال، وبها صار الأبدال أبدالا، إخماص البطون، والصمت، والسهر، والاعتزال عن الناس. (وقال) أيضا: (رأس كل بر نزل من السماء إلى الأرض الجوع، ورأس كل فجور بينهما الشبع، وقال) أيضا: (من جوع نفسه انقطعت عنه الوساوس) ، أي: لأن الشيطان تضيق مجاريه إلى القلب، فلا يقدر على أن يوسوس، (وقال) أيضا: (إقبال الله على العبد بالجوع والسقم والبلاء نعمة من الله تعالى) عليه; إذ لولا أنه اختاره لما بلاه، (وقال) أيضا: (اعلموا أن هذا زمان لا ينال أحد فيه النجاة إلا بذبح نفسه) الأمارة بالسوء، (وقتلها بالجوع والسهر والجهد) في طاعات الله عز وجل، (وقال) أيضا: (ما على وجه الأرض أحد شرب من هذا الماء حتى روي فسلم من المعصية، وإن شكر الله تعالى، فكيف الشبع من الطعام) ، هذه الأقوال كلها لسهل رحمه الله تعالى، وزاد صاحب القوت فقال: وقال سهل : من لم يصبر على الجوع والضر لم يتحقق هذا الأمر، (وسئل حكيم) من الحكماء (بأي قيد تقيد النفس؟) وفي بعض النسخ: أقيد النفس، (قال: قيدها بالجوع والعطش، وذللها بإخماد العز وترك الذكر، وصغرها بوضعها تحت أرجل أبناء الآخرة، واكسرها بترك زي الأغنياء) أي: هيئتهم، (وانج من آفاتها بدوام ظن السوء بها، واصحبها بخلاف هواها) ، أي: بمخالفة ما تهواه، (وكان عبد الواحد بن زيد) البصري رحمه الله تعالى (يقسم بالله تعالى ما صافى الله تعالى أحد إلا بالجوع، ولا مشوا على الهواء والماء، ولا طويت لهم الأرض، ولا والاهم الله تعالى إلا بالجوع) ، وكان يعد الأخلاق الشريفة السنية المحمودة، ويحلف إنهم ما نالوها إلا بالجوع .

رواه صاحب القوت، فقال: حدثني محمد الجهضمي عن أحمد بن شاكر ، قال: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: سمعت الثقات من العلماء يقولون عن عبد الواحد بن زيد .. فذكره. وقال في موضع آخر: وكان عبد الواحد بن زيد يحلف بالله ما تحول الصديقون إلا بالجوع والسهر، (وقال أبو طالب المكي ) رحمه الله تعالى في كتابه القوت: (مثل البطن مثل المزهر) بكسر الميم، (وهو العود المجوف ذو الأوتار، إنما حسن صوته لخفته ورقته; ولأنه أجوف غير ممتلئ) ، ولو كان ثقيلا جاسيا ممتلئا لم يكن له صوت،

(وكذلك الجوف إذا خلا عن الطعام والشراب كان) أرق للقلب، و (أعذب للتلاوة، وأدوم للقيام، وأقل للمنام، وقال بكر بن عبد الله المزني) البصري رحمه الله تعالى: (ثلاثة يحبهم الله تعالى: رجل قليل النوم، قليل الأكل، قليل الراحة) ، أي: في عبادة الله تعالى; (لأنها) لا تحصل إلا بجهد ومشقة، (وروي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحا لم يأكل) شيئا، (فخطر بباله) في أثناء مناجاته (الخبز، فانقطع عن) أنس، (المناجاة، فإذا رغيف موضوع بين يديه، فجلس يبكي لفقد) أنس، (المناجاة، وإذا بشيخ قد أظله) ، أي: أشرف عليه، (فقال له عيسى : يا ولي الله، ادع الله لي؛ فإني كنت في حالة) المناجاة، (فخطر ببالي الخبز، فانقطعت عني) تلك الحالة، (فقال الشيخ: اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي. وروي أن موسى عليه السلام لما قربه) الله (نجيا) أي: في مقام المناجاة، (كان قد ترك الأكل أربعين يوما) ، وفي القوت: روينا عن أبي سعيد الخراز قال: قال جماعة من الحكماء: إن الله تعالى لا يكلم أحدا وفي بطنه شيء من الدنيا، فهذا يدل على أمره لموسى عليه السلام بترك الأكل ليلقاه خاليا من الدنيا، وبنفس ساكنة عن المنازعة إلى شيء من الملك وروح روحانية، قد أحياها الحي بحياته، فعند ذلك صلح هذا الشخص [ ص: 394 ] لمخاطبته قبلا بلا ترجمان .

وروي عن مكحول قال: ثلاث خصال يحبها الله عز وجل; قلة الأكل، وقلة النوم، وقلة الكلام ، وكان بعض السلف يقول: أدنى أحوال المؤمن قلة الأكل والنوم، وأفضل أحوال المنافق كثرة الأكل والنوم، وقال القشيري في الرسالة: قال يحيى بن معاذ : لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره، وقال أيضا: الجوع نور، والشبع نار، والشهوة مثل الحطب، يتولد منه الإحراق، ولا تنطفئ ناره حتى تحرق صاحبها، وكان سهل التستري إذا جاع قوي، وإذا أكل ضعف، وقال أبو عثمان المغربي : الرباني لا يأكل أربعين يوما، والصمداني لا يأكل ثمانين يوما .




الخدمات العلمية