الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان ما رخص فيه من الكذب .

اعلم أن الكذب ليس حراما لعينه ، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على ، غيره فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه ، فيكون جاهلا ، وقد يتعلق به ضرر غيره ، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة فالكذب محصل لذلك الجهل ، فيكون مأذونا فيه وربما كان واجبا .

قال ميمون بن مهران الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، أرأيت لو أن رجلا سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله ، فدخل دارا ، فانتهى إليك ، فقال : أرأيت فلانا ؟ ما كنت قائلا ، ألست تقول : لم أره ، وما تصدق به وهذا ، الكذب واجب .

فنقول : الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا ، فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق ، فالكذب فيه مباح ، إن كان تحصيل ذلك القصد مباحا وواجب ، إن كان المقصود واجبا ، كما أن عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أن استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب ، فالكذب مباح ، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه ، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة فيكون ، الكذب حراما في الأصل ، إلا لضرورة .

والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث الرجل يقول القول يريد به الإصلاح والرجل يقول القول في الحرب ، والرجل يحدث امرأته ، والمرأة تحدث زوجها وقال أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس بكذاب من أصلح بين اثنين ، فقال خيرا ، أو نمى خيرا وقالت أسماء بنت يزيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما وروي عن أبي كاهل قال : وقع بين اثنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلام حتى تصارما فلقيت أحدهما فقلت ما لك : ولفلان فقد سمعته يحسن عليك الثناء ثم لقيت ؟ الآخر فقلت له مثل ذلك ، حتى اصطلحا ، ثم قلت : أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا كاهل ، أصلح بين الناس أي ، ولو . بالكذب .

التالي السابق


(بيان ما يرخص فيه من الكذب )

قال أبو بكر بن الأنباري : الكذب ينقسم إلى خمسة أقسام ، أحدها: تعبير الحاكي ما يسمع بقوله ما لا يعلم نقلا، ورواية، وهذا القسم هو الذي يؤثم ويهضم المروءة، الثاني هو أن يقول قولا يشبه الكذب، والمتكلم به لا يقصد إلا الحق، ومنه الخبر: كذب أبي ثلاث كذبات، في قوله: إني سقيم ، وفي قوله: بل فعله كبيرهم هذا ، وفي قوله: سارة أختي. فتأويل هذا القول: أي قال قولا يشبه الكذب وهو صادق في الكلمات الثلاث، والثالث يقال: كذب بمعنى أخطأ، والرابع يقال: كذب الرجل بمعنى بطل أمله، وما رجاه، ومنه قول الشاعر:


كذبتم وبيت الله لا تأخذونها مغالبة ما دام للسيف قائم



أي: كذبكم أملكم وبطل تقديركم، والخامس يطلق الكذب ويراد به الإغراء ومطالبة المخاطب بلزوم الشيء المذكور، كقول العرب: كذب عليك العسل. يريدون كل العسل، تلخيصه أخطأ تارك العسل، ورافضه، فغلب المضاف إليه على المضاف. قال عمر رضي الله عنه: كذب عليكم الحج، معناه: الزموا الحج، هذا خلاصة ما ذكره في هذه المسألة، والمشار إليه من قبل اعتوار الأحكام الشرعية عليه من الحرمة والإباحة هو القسم الأول منها، وقد أشار إليه المصنف فقال: (اعلم أن الكذب ليس حراما لعينه، بل لما فيه من الضرر) الحاصل (على المخاطب، وعلى غيره) ، إما في الحال أو في المآل، (فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر) الذي أخبر بالقول (الشيء على خلاف ما هو به، فيكون جاهلا، وقد يتعلق به ضرر غيره، ورب جهل) بالشيء (فيه منفعة ومصلحة) له أو لغيره، (فالكذب محصل لذلك الجهل، فيكون مأذونا فيه) نظرا لتلك المنفعة والمصلحة، (وربما كان) الكذب (واجبا) إذا وقع في تركه ما هو أفحش منه .

(قال ميمون بن مهران) الجزري الثقة، كاتب عمر بن عبد العزيز : (إن الكذب في بعض المواطن خير، أرأيت لو أن رجلا سعى وآخر وراءه بالسيف، فدخل دارا، فانتهى إليك، فقال: أرأيت فلانا؟ ما كنت قائلا، ألست تقول: لم أره، وما تصدق، فهذا الكذب واجب) .

أخرجه ابن أبي الدنيا ، فقال: حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا ابن علية ، عن سوار بن عبد الله قال: نبئت أن ميمون بن مهران قال -وعنده رجل من قراء أهل الشام -: إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق . فقال الشامي : لا، الصدق [ ص: 523 ] في كل موطن خير. قال: أرأيت لو رأيت رجلا يسعى، وآخر تبعه بالسيف، فدخل دارا فانتهى إليك، فقال: رأيت الرجل؟ ما كنت قائلا؟ قال: كنت أقول: لا. قال: فهو ذاك. (فنقول: الكلام وسيلة إلى المقاصد) أي: يتوصل به إلى تحصيلها، سواء كانت دنيوية، أو أخروية، وسواء كانت محمودة أو مذمومة، (فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا، فالكذب فيه حرام) قولا واحدا، (وإن أمكن التوصل بالكذب دون الصدق، فالكذب فيه) حينئذ (مباح، إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا، واجب إن كان المقصود واجبا، كما أن عصمة دم المسلم) ، وكذا عصمة ماله وعرضه، (واجب، فمهما كان في الصدق سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم) يريد قتله أو أخذ ماله، أو هتك عرضه، وكذا في الستر على عورة أخيه إذا سئل، (فالكذب فيه واجب) ، ويدل على ذلك قول ميمون بن مهران السابق، (ومهما كان لا يتم مقصود حرب) مع العدو (أو إصلاح ذات البين) بين رجلين، أو بين رجل وامرأة، أو بين طائفتين، (أو استمالة قلب المجني عليه) ، وكذا الحديث مع المرأة (إلا بكذب، فالكذب) حينئذ (مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز عنه) أي: عن الكذب (ما أمكن) له ذلك; (لأنه إذا فتح باب الكذب فيخشى أن يتداعى) ويتسبب (إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فكان الكذب حراما في الأصل، إلا لضرورة) عارضة، (فالذي يدل على الاستثناء) أي: الإخراج عن حد الحرمة (ما روي عن أم كلثوم) بنت عقبة بن أبي معيط، أخت الوليد، وأخت عثمان لأمه، صلت بالقبلتين، وهاجرت إلى المدينة ماشية عام الحديبية ، وفيها نزلت آية الامتحان، فتزوجها زيد بن حارثة ، ثم الزبير ، ثم عبد الرحمن بن عوف ، فولدت له إبراهيم وحميدا ، ومات عنها فتزوجها عمرو بن العاص ، فماتت بعد شهر، روى لها البخاري ومسلم وأبو داود ، والترمذي والنسائي (قالت: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث) مواطن (الرجل يقول القول يريد) به (الإصلاح) ، أي: إصلاح ذات البين، (والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها) ، رواه مسلم في صحيحه، وقد تقدم، وعند ابن جرير : " لا يصلح الكذب إلا في إحدى ثلاث : الرجل يصلح بين الرجلين، وفي الحرب، والرجل يحدث امرأته" . ورواه ابن جرير أيضا من حديث أبي الطفيل بلفظ: "رجل كذب امرأته ليستصلح خلقها، ورجل كذب ليصلح بين امرئين مسلمين، ورجل كذب في خديعة حرب؛ فإن الحرب خدعة" ، ورواه أبو عوانة من حديث أبي أيوب بلفظ: "لا يحل الكذب إلا في ثلاثة: الرجل يكذب امرأته يرضيها بذلك، والرجل يمشي بين رجلين يصلح بينهما، والحرب خدعة" .

(وقالت أم كلثوم ) أيضا: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بكذاب من أصلح بين اثنين، فقال خيرا، أو نمى خيرا ) بتخفيف الميم وتشديدها، أي: رفع خيرا، رواه أحمد والشيخان، وأبو داود والترمذي ، وابن جرير من طريق حميد بن عبد الرحمن ، عن أم كلثوم ، ولفظهم: "ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا ويقول خيرا ، وقد تقدم هذا الحديث، وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن جميل ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا يونس ، عن الزهري ، أنبأنا حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن أمه، وهي أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرا وينمي خيرا" . قال ابن شهاب : فلم أسمع يرخص فيما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها .

(وقالت أسماء بنت يزيد) بن السكن الأنصارية بنت عمة معاذ ، روى لها الأربعة: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين) بينهما إحن وفتن، (يصلح بينهما) ، فلا يكتب عليه في ذلك إثم. قال العراقي : رواه أحمد بزيادة فيه، وهو عند الترمذي مختصرا وحسنه. اهـ .

قلت: ورواه ابن أبي الدنيا عن داود بن عمرو الضبي ، حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار ، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "أيها الناس، ما يحملكم على أن تتابعوا كما تتابع الفراش في النار؟ كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال: رجل كذب امرأته [ ص: 524 ] ليرضيها، ورجل كذب بين امرئين ليصلح بينهما، ورجل كذب في خديعة الحرب . وأخرجه ابن عدي في الكامل بمثل ذلك، وأخرجه الترمذي وحسنه بلفظ: "لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: حديث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب يصلح بين الناس" . ورواه ابن جرير وابن النجار بهذا اللفظ من حديث عائشة . (وروي عن أبي كاهل) الأحمس، اسمه قيس بن عائذ ، وقيل: عبد الله بن مالك ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد بواسطة أخيه، وبغير واسطة، وكان إمام الحي، ومات في زمن المختار ، قال الحافظ في الإصابة: وفي الصحابة رجل آخر أبو كاهل ، غير منسوب له حديث طويل، أخرجه أبو أحمد الحاكم ، (قال: وقع بين رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلام حتى تصارما) ، أي: تقاطعا، (فلقيت أحدهما فقلت: ما لك ولفلان وقد سمعته يحسن عليك الثناء؟ ولقيت الآخر فقلت) له (مثل ذلك، حتى اصطلحا، ثم قلت: أهلكت نفسي) بالكذب، (وأصلحت بين اثنين، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا كاهل ، أصلح بين الناس، ولو. يعني بالكذب) قال العراقي : رواه الطبراني ، ولم يصح. اهـ .

قلت: ولفظه: ولو بكذا وكذا، يعني الكذب .




الخدمات العلمية