وقد جاء في الأثر:
nindex.php?page=treesubj&link=29619_28658يقول الله تعالى: (خلقت خلقي حنفاء مقرين) يعني: عرفاء عرفوه بوحدانيته، وأقروا له بمعرفة ربوبيته، وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم بها على ألسنة السفراء، وهو قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [سورة الإسراء:15].
وقول صاحب الشرع:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650379« أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا [ ص: 510 ] إله إلا الله» ، لم يقل: حتى يقولوا: إن لهم ربا، إذ هم عارفون بذلك. وإنما أمرتهم الرسل أن يصلوا معرفة التوحيد بمعرفة الربوبية والوحدانية فأبوا، وقبل ذلك الموحدون، فقال في حال المؤمنين:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=21والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل [سورة الرعد:21]، وقال في حال الكفار:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=27ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل [سورة البقرة:27].
فالسفراء لهم مدخل في معرفة التوحيد دون معرفة الوحدانية والربوبية، إذ لكل معرفة مقام، فليس للعقل والكسب والوسائط والنظر والاستدلال في هذه المعرفة حكم، لكونها عامة موجودة ممن يصح منه النظر والاستدلال وممن لا يصح منه، فلو كلفهم كلهم النظر والاستدلال، لكان مكلفا لهم شططا، إذ يصح من الكل النظر والاستدلال، ويصح من الكل المعرفة بالاضطرار، فحملهم من ذلك ما رفع به عنهم الشطط.
وحديث الجارية فمشهور، وهي مما لا يصح منه النظر والاستدلال. وكذلك الأبله والمجنون وغيرهم، لو سألتهم عن الله سبحانه لأشاروا إليه بما عرفهم، فتعرف سبحانه قبل التكليف بنفسه وبعد التكليف بالسفراء، لأنه لو خاطبهم وكاشفهم قبل التكليف بلا سفير لبطل التكليف) .
[ ص: 511 ]
قال: وقد
« قال له nindex.php?page=showalam&ids=1584أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله، بماذا أقول: عرفت الله؟ فقال: إنك إن قلت بمن فقد أشركت، وإن حلت كفرت، وإن وسطت واسطة ضللت» .
وقد قيل
nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي رضي الله عنه: بم عرفت ربك؟ فقال: بما عرفني نفسه، لا يشبه صورة، ولا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس.
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس حين سأله
نجدة الحروري فقال: يا
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بما عرفت ربك إذ عرفته؟ فأجاب بنحو من جواب أمير المؤمنين.
وقول
الصديق الأكبر: (سبحان من لم يجعل للخلق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته) .
فهذه المعرفة ضرورة للعارف موجودة فيه، كوجود ضرورة المقعد وقعوده موجود فيه، فهو سبحانه المعروف الذي لا ينكره شيء، والمعلوم الذي لا يجهله شيء، فمن كانت معه معرفتان فهو كافر، وبالمعرفة الثالثة يصح الإيمان، وهو الفصل الثالث: وهي معرفة التوحيد التي دعت الرسل إليها، وبعثوا بها، وكلفنا قبولها، وهي قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=163وإلهكم إله واحد [سورة البقرة:163]، وهو قوله:
[ ص: 512 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [سورة النساء:165]، وأخبرنا أنه ما كان معذبا قبل بعثتهم، فكانوا يعرفون أن لهم ربا وإلها، ولكنهم ينكرون توحيد الإله وبعث رسله وشرائع دينه، وبه وقع منهم الكفر.
فوجود ذلك منهم يزيل عنهم معرفة التوحيد، ولا يزيل ضرورتهم، وهذه المعرفة وجبت بالتوقيف، وهي ما وقفتنا الرسل عليه، ودلنا عليه سبحانه، ووفقنا لذلك، وبها يجب الخلود في الجنة، وبعدمها يجب الخلود في النار، وهي مكتسبة ولم تجب بالعقل كما زعمت
المعتزلة، لأن هذه المقالة تضاهي مقالة
البراهمة، حيث زعمت أن في قوة العقل كفاية عن بعث الرسل، والحق لم يخبر أنه ما كان يعذبهم حتى يرزقهم عقولا، وإن كان العقل حجة فهو باطن، والرسل حجة الله ظاهرة.
وقد قيل لبعض العارفين: بم عرفت الله؟ قال: بالله. فقيل: فأين العقل؟ فقال: العقل عاجز يدل على عاجز.
وقد جاء في الأثر:
nindex.php?page=hadith&LINKID=940637إن الله سبحانه لما خلق العقل، وأقامه بين يديه - وهو حجة من قال: عرف بالعقل - فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف. فتعلق الخصم بهذه
[ ص: 513 ] الكلمة، وتمام الحديث:
فطفق لا ينطق، فكحله بنور العزة، فقال: أنت الله الذي لا إله إلا أنت، فلم يعرف العقل الله إلا بالله.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ:
nindex.php?page=treesubj&link=29619_28658يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (خَلَقْتُ خَلْقِي حُنَفَاءَ مُقِرِّينَ) يَعْنِي: عُرَفَاءَ عَرَفُوهُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِمَعْرِفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا جَحَدُوا مَعْرِفَةَ التَّوْحِيدِ الَّذِي تَعَبَّدَهُمْ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ السُّفَرَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [سُورَةِ الْإِسْرَاءِ:15].
وَقَوْلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650379« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا [ ص: 510 ] إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، لَمْ يَقُلْ: حَتَّى يَقُولُوا: إِنَّ لَهُمْ رَبًّا، إِذْ هُمْ عَارِفُونَ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا أَمَرَتْهُمُ الرُّسُلُ أَنْ يَصِلُوا مَعْرِفَةَ التَّوْحِيدِ بِمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ فَأَبَوْا، وَقَبِلَ ذَلِكَ الْمُوَحِّدُونَ، فَقَالَ فِي حَالِ الْمُؤْمِنِينَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=21وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [سُورَةِ الرَّعْدِ:21]، وَقَالَ فِي حَالِ الْكُفَّارِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=27وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [سُورَةِ الْبَقَرَةِ:27].
فَالسُّفَرَاءُ لَهُمْ مَدْخَلٌ فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ دُونَ مَعْرِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، إِذْ لِكُلِّ مَعْرِفَةٍ مَقَامٌ، فَلَيْسَ لِلْعُقَلِ وَالْكَسْبِ وَالْوَسَائِطِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ حُكْمٌ، لِكَوْنِهَا عَامَّةً مَوْجُودَةً مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ وَمِمَّنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ، فَلَوْ كَلَّفَهُمْ كُلَّهُمُ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، لَكَانَ مُكَلِّفًا لَهُمْ شَطَطًا، إِذْ يَصِحُّ مِنَ الْكُلِّ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، وَيَصِحُّ مِنَ الْكُلِّ الْمَعْرِفَةُ بِالِاضْطِرَارِ، فَحَمَّلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا رَفَعَ بِهِ عَنْهُمُ الشَّطَطَ.
وَحَدِيثُ الْجَارِيَةِ فَمَشْهُورٌ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَصِحُّ مِنْهُ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ. وَكَذَلِكَ الْأَبْلَهُ وَالْمَجْنُونُ وَغَيْرُهُمْ، لَوْ سَأَلَتْهُمْ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَأَشَارُوا إِلَيْهِ بِمَا عَرَّفَهُمْ، فَتَعَرَّفَ سُبْحَانَهُ قَبْلَ التَّكْلِيفِ بِنَفْسِهِ وَبَعْدَ التَّكْلِيفِ بِالسُّفَرَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ خَاطَبَهُمْ وَكَاشَفَهُمْ قَبْلَ التَّكْلِيفِ بِلَا سَفِيرٍ لِبَطَلَ التَّكْلِيفُ) .
[ ص: 511 ]
قَالَ: وَقَدْ
« قَالَ لَهُ nindex.php?page=showalam&ids=1584أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِمَاذَا أَقُولُ: عَرَفْتُ اللَّهَ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ بِمَنْ فَقَدْ أَشْرَكْتَ، وَإِنْ حُلْتَ كَفَرْتَ، وَإِنْ وَسَّطْتَ وَاسِطَةً ضَلَلْتَ» .
وَقَدْ قِيلَ
nindex.php?page=showalam&ids=8لِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: بِمَا عَرَّفَنِي نَفْسَهُ، لَا يُشْبِهُ صُورَةً، وَلَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ.
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ سَأَلَهُ
نَجْدَةُ الْحَرُورَيُّ فَقَالَ: يَا
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَا عَرَفْتَ رَبَّكَ إِذْ عَرَفْتَهُ؟ فَأَجَابَ بِنَحْوٍ مَنْ جَوَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُ
الصَّدِيقِ الْأَكْبَرِ: (سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِلْخَلْقِ طَرِيقًا إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ) .
فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ ضَرُورَةٌ لِلْعَارِفِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ، كَوُجُودِ ضَرُورَةِ الْمَقْعَدِ وَقُعُودُهُ مَوْجُودٌ فِيهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي لَا يُنْكِرُهُ شَيْءٌ، وَالْمَعْلُومُ الَّذِي لَا يَجْهَلُهُ شَيْءٌ، فَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ مَعْرِفَتَانِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَبِالْمَعْرِفَةِ الثَّالِثَةِ يَصِحُّ الْإِيمَانُ، وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهِيَ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ الَّتِي دَعَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهَا، وَبُعِثُوا بِهَا، وَكُلِّفْنَا قَبُولَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=163وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [سُورَةِ الْبَقَرَةِ:163]، وَهُوَ قَوْلُهُ:
[ ص: 512 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سُورَةِ النِّسَاءِ:165]، وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ مَا كَانَ مُعَذِّبًا قَبْلَ بَعْثَتِهِمْ، فَكَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا وَإِلَهًا، وَلَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ تَوْحِيدَ الْإِلَهِ وَبَعْثَ رُسُلِهِ وَشَرَائِعَ دِينِهِ، وَبِهِ وَقَعَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ.
فَوُجُودُ ذَلِكَ مِنْهُمْ يُزِيلُ عَنْهُمْ مَعْرِفَةَ التَّوْحِيدِ، وَلَا يُزِيلُ ضَرُورَتَهُمْ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ وَجَبَتْ بِالتَّوْقِيفِ، وَهِيَ مَا وَقَفَتْنَا الرُّسُلُ عَلَيْهِ، وَدَلَّنَا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَوَفَّقَنَا لِذَلِكَ، وَبِهَا يَجِبُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ، وَبِعَدَمِهَا يَجِبُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَهِيَ مُكْتَسَبَةٌ وَلَمْ تَجِبْ بِالْعَقْلِ كَمَا زَعَمَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةُ تُضَاهِي مَقَالَةَ
الْبَرَاهِمَةِ، حَيْثُ زَعَمَتْ أَنَّ فِي قُوَّةِ الْعَقْلِ كِفَايَةً عَنْ بَعْثِ الرُّسُلِ، وَالْحَقُّ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ مَا كَانَ يُعَذِّبُهُمْ حَتَّى يَرْزُقَهُمْ عُقُولًا، وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ حُجَّةً فَهُوَ بَاطِنٌ، وَالرُّسُلُ حُجَّةُ اللَّهِ ظَاهِرَةً.
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ: بِمَ عَرَفْتَ اللَّهَ؟ قَالَ: بِاللَّهِ. فَقِيلَ: فَأَيْنَ الْعَقْلُ؟ فَقَالَ: الْعَقْلُ عَاجِزٌ يَدُلُّ عَلَى عَاجِزٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=940637إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ الْعَقْلَ، وَأَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ - وَهُوَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: عُرِفَ بِالْعَقْلِ - فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ أَكْرَمُ عَلَيَّ مِنْكَ، بِكَ آخُذُ، وَبِكَ أُعْطِي، وَبِكَ أُعْرَفُ. فَتَعَلَّقَ الْخَصْمُ بِهَذِهِ
[ ص: 513 ] الْكَلِمَةِ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ:
فَطَفِقَ لَا يَنْطِقُ، فَكَحَّلَهُ بِنُورِ الْعِزَّةِ، فَقَالَ: أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَلَمْ يَعْرِفِ الْعَقْلُ اللَّهَ إِلَّا بِاللَّهِ.