الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ابن رشد: (وأما إن عنى بالممكن ما له علته من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين من الموجودات الممكنة بالحقيقة، ولا تبين بعد أن هاهنا ضروريا يحتاج إلى علة، فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة، إلى أن يتبين أن الأمر في الجملة الضرورية - التي من علة ومعلول- كالأمر في الجملة الممكنة) .

قلت: فابن رشد ذكر أولا أن الممكن، إن فهمنا منه: الممكن [ ص: 184 ] الحقيقي وهو المحدث، فقد تبين فساد كلامهم على هذا التقدير. وإن عني بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية - كما يقوله ابن سينا وأتباعه: إن الأفلاك ضرورية واجبة الوجود، يمتنع عدمها أزلا وأبدا، ويقول مع ذلك: إنها ممكنة، يعني أنها معلولة - قال ابن رشد: فلا يمكن إثبات واجب الوجود على هذا التقدير، كما لا يمكنهم إثباته بطريقتهم على التقدير الأول.

وذلك أن مقدمة الدليل لا بد أن تكون معلولة قبل النتيجة، فيستدل على ما لا يعلم بما يعلم، ويستدل بالبين على الخفي.

وحينئذ فما ذكروه فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لم يتبين بعد أنه يستحيل وجود التسلسل في هذه الممكنات بالوجه الذي تبين في الممكنات الحقيقية. وهي المحدثات.

ودليلهم في إثبات واجب الوجود موقوف على إبطال التسلسل، وإبطال التسلسل إنما يمكن في المحدثات، لا في الأمور الضرورية التي لا تقبل العدم، إذا قدر تسلسلها.

الوجه الثاني: قال: (ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة، فيجب عن وضع هذا، أي عن تقدير هذا، أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة، إلى أن تبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة الممكنة) .

ومعنى كلامه: أن مقدمة الدليل يجب أن تكون معلومة قبل النتيجة، فإذا كانوا يثبتون واجب الوجود بما جعلوه ممكنا، وإن كان [ ص: 185 ] ضروريا واجب الوجود، لكنه واجب بغيره، فيجب أولا أن يثبتوا أن هاهنا ضروريا يحتاج إلى علة، وهو الواجب بغيره، الذي قالوا: إنه واجب أزلا وأبدا ضروري الوجود، لكنه واجب بغيره لا بنفسه، فلهذا سموه ممكنا.

قال: (ولم يبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة، حتى يلزم عن تقدير ذلك أن يكون هنا ضروريا بغير علة، وهو الواجب بنفسه، ولو بين هذا أولا كان يحتاج بعد ذلك أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة الممكنة) . يقول: لو تبين أولا أنه يمكن أن يكون ضروري الوجود واجب الوجود أزلا وأبدا، وهو مع ذلك معلول لغيره.

لقيل: هذا يدل على ضروري آخر يكون واجب الوجود ويكون علة له، وحينئذ فنحتاج أن نقول: إنه يمتنع وجود علل ومعلولات، كل منها ضروري واجب الوجود قديم يمتنع عدمه أزلا وأبدا، فيكون التسلسل فيها باطلا، كما كان التسلسل باطلا في الممكن الحقيقي، وهو المحدث.

فإنه قد علم بالعقل واتفاق العقلاء أنه يمتنع وجود محدثات متسلسلة، كل منها محدث الآخر، ليس فيها قديم، فلو ثبت إمكان معلول قديم أزلي، لوجب بعد هذا أن ينظر في امتناع التسلسل، وقد تقدم أن التسلسل في ذلك على هذا التقدير لا يمكن إقامة الدليل على امتناعه، فكيف إذا لم يثبت الأصل الذي بنوا عليه كلامهم؟

التالي السابق


الخدمات العلمية