الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب التاسع عشر

                                                                                                                                                                                                                              في نفقته صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود والبيهقي عن أبي عامر عبد الله قال : لقيت بلالا مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بحلب فقلت : حدثني كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما كان له شيء من ذلك ، إلا أني الذي كنت آتي ذلك منه منذ بعثه الله تعالى ، إلى أن توفي ، فكان إذا أتاه الإنسان فرآه عاريا يأمرني فأنطلق ، فأستقرض ، فأشتري البردة والشيء ، فأكسوه وأطعمه ، حتى اعترضني رجل من المشركين ، فقال : يا بلال إن عندي سعة ، فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت ، فلما كان ذات يوم توضأت ، ثم قمت لأؤذن بالصلاة ، فإذا المشرك في عصابة من التجار ، فلما رآني قال : يا حبشي, قلت : لبيك ، فتجهمني ، وقال قولا غليظا ، فقال : ألا ترى كم بينك وبين الشهر ؟ قلت : قريب ، قال : إنما بينك وبينه أربع ليال ، فآخذك بالذي عليك ، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك ، ولا من كرامة صاحبك ، ولكن أعطيتك لتصير لي عبدا ، فأذرك ترعى الغنم ، كما كنت قبل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس ، فانطلقت ، ثم أذنت بالصلاة ، حتى إذا صليت العتمة ، رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ، فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، إن المشرك الذي قلت لك إني كنت أتدين منه قد قال كذا وكذا ، وليس عندك ما تقضي عني ، ولا عندي ، وهو فاضحني ، فأذن لي أن آتي بعض هؤلاء الأحياء الذين أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله ما يقضي عني .

                                                                                                                                                                                                                              فخرجت حتى أتيت منزلي فحملت سيفي وجرابي ورمحي ، ونعلي عند رأسي ، واستقبلت بوجهي الأفق ، فكلما نمت انتبهت ، فإذا رأيت علي ليلا نمت ، حتى انشق عمود الصبح الأول ، فأردت أن أنطلق ، فإذا إنسان يسعى يدعو : يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلقت ، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذنت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أبشر يا بلال ، فقد جاءك الله تعالى بقضائك ، فحمدت الله تعالى» ، فقال : ألم تمر على الركائب المناخات الأربع ؟ قال : فقلت : بلى ؟ قال : فإن لك رقابهن ، وما عليهن ، فإذا عليهن كسوة ، وطعام ، أهداهن له عظيم فدك ، قال : فاقبضهن إليك ، ثم اقض دينك .

                                                                                                                                                                                                                              قال : ففعلت ، فحططت عنهن أحمالهن ، ثم عقلتهن ، ثم عدت إلى تأذين صلاة الصبح ، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ، خرجت إلى البقيع ، فجعلت أصبعي في أذني ، فناديت ، وقلت : من كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم دينا فليحضر ، فما زلت أبيع وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين في الأرض ، حتى فضل عندي أوقيتان ، أو أوقية ونصف .

                                                                                                                                                                                                                              ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده [ ص: 91 ] فسلمت عليه ، فقال لي : «ما فعل ما قبلك ؟ » قلت : قضى الله كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يبق شيء ، فقال : «فضل شيء ؟ » قلت : نعم ، قال : «انظر أن تريحني منها ، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منها ، فلم يأتنا أحد» فبات في المسجد حتى أصبح ، وظل في المسجد اليوم الثاني ، حتى إذا كان في آخر النهار جاء راكبان ، فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما ، حتى إذا صلى العتمة دعاني ، فقال : «ما فعل ما قبلك ؟ » قلت : قد أراحك الله منه ، فكبر ، وحمد الله؛ شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك ، ثم تبعته حتى جاء أزواجه ، فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته . فهذا الذي سألتني عنه .


                                                                                                                                                                                                                              تنبيه : في بيان غريب ما سبق :

                                                                                                                                                                                                                              العصابة : بعين مكسورة ، فصاد مفتوحة مهملتين ، فموحدة : الجماعة من الناس .

                                                                                                                                                                                                                              تجهمني : أي تلقاني بوجه كريه ، وأغلظ علي القول .

                                                                                                                                                                                                                              العتمة : بعين مهملة ، فمثناة فوقية ، فميم مفتوحات ، فتاء تأنيث : العشاء ، سميت بذلك لأنها تعتم ، أي تطلق أعتمة الليل ، وهي ظلمته .

                                                                                                                                                                                                                              جرابي : بجيم مكسورة ، ولا تفتح أوله فيما حكاه النووي والقاضي : المذود أو الوعاء .

                                                                                                                                                                                                                              الركائب : براء فكاف مفتوحتين ، فهمزة فموحدة : واحده ركاب ككتاب [وهي الرواحل] واحدها راحلة .

                                                                                                                                                                                                                              فدك : بفاء فدال مهملة ، فكاف مفتوحات : قرية بخيبر . [ ص: 92 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية