الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب السادس في وجوب مناصحته صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              قال الله تعالى : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم [التوبة 91] .

                                                                                                                                                                                                                              قال أهل التفسير : معناه : إذا كانوا مخلصين في أفعالهم وأقوالهم ، مسلمين في السر والعلانية .

                                                                                                                                                                                                                              روى مسلم وأبو داود عن تميم الداري - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة . قيل : لمن يا رسول الله ، قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم» .

                                                                                                                                                                                                                              [قال القاضي : قال أئمتنا أي : من المالكية : النصيحة لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم واجبة] ، وقال الإمام أبو سليمان البستي حمد الخطابي : النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة إرادة الخير للمنصوح له ، وليس يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة تحصرها وتجمع معناها غيرها ، ومعناها في اللغة : الإخلاص من قولهم نصحت العسل إذا خلصته من شمعه بنار لطيفة ، وقال أبو بكر بن أبي إسحاق الخفاف : - بخاء معجمة ، بفاءين ، أولاهما مشددة بينهما ألف- النصح فعل الشيء الذي به الصلاح والملاءمة ، مأخوذ من النصاح- بنون مكسورة وصاد مهملة مفتوحة وألف وحاء مهملة- ، وهو الخيط الذي يخاط به الثوب ، فنصيحة الله تعالى الإيمان به ، وصحة الاعتقاد له بالوحدانية ، ووصفه بما هو أهله ، بدون إلحاد في صفاته ، وتنزيهه عما لا يجوز عليه ولا يليق به مما يوهم نقصا والبعد من جميع ما يسخطه ولا يرضاه ، والإخلاص في عبادته ، بأن تفرده بالقصد من غير شرك ولا رياء .

                                                                                                                                                                                                                              والنصيحة لكتابه الإيمان به : أي التصديق بأن كلام الله تعالى بما اشتمل عليه من أحكام ومواعظ وأمثال (وعموم ) ، والعمل بما فيه من المحكم والتسليم للمتشابه ، والتخشع عند تحسين تلاوته والتعظيم له ، والتفقه في معانيه ، والذب عنه من تأويل الغالين وطعن الملحدين .

                                                                                                                                                                                                                              والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته ، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه وقال الخفاف :

                                                                                                                                                                                                                              نصيحة الرسول- صلى الله عليه وسلم- مؤازرته ونصرته وحمايته حيا وميتا ، وإحياء سنته بالعمل بها والذب عنها ، ونشرها ، والتخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الجميلة ، وقال أبو إبراهيم إسحاق التجيبي [ ص: 435 ] - بضم المثناة الفوقية وفتحها ، ثم جيم مفتوحة ، فمثناة وتحتية ساكنة فموحدة- نسبة إلى تجيبة بطن من كندة - نصيحة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التصديق بما جاء به والاعتصام بسنته ونشرها والحض (عليها ) ، والدعوة إلى الله تعالى وإلى كتابه وإلى رسوله ، والعمل بها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن محمد : من مفروضات القلوب اعتقاد النصيحة له- صلى الله عليه وسلم- ، وقال أبو بكر الآجري - بهمزة ممدودة فجيم مضمومة فراء مشددة- : النصح له- صلى الله عليه وسلم- يقتضي ، نصحين نصحا في حياته ونصحا بعد مماته ، ففي حياته نصح أصحابه له بالنصر والمحاماة عنه ومعاداة من عاداه والسمع والطاعة له وبذل النفس والأموال دونه كما قال تعالى : وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر 8] ، وأما نصيحة المسلمين بعد وفاته فالتزام التوقير والإجلال والرغبة له والمواظبة على تعليم سنته ، والتفقه في شريعته ومحبته لآل بيته وأصحابه ، ومجانبة من رغب عن سنته وانحرف عنها وبغضه والتحذير منه ، والشفقة على أمته ، والبحث عن تعرف أخلاقه وسيرته وآدابه والصبر على ذلك ، وحكى أبو القاسم القشيري : أن (عمرو ) بن الليث أحد ملوك خراسان رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، فقيل له : بماذا ؟ فقال : صعدت- بكسر العين- ذروة جبل- بكسر المعجمة وضمها- أعلاه فأشرفت على جنودي ، فأعجبتني كثرتهم ، فتمنيت أني حضرت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعنته ونصرته ، فشكر الله تعالى لي ذلك وغفر لي ، وأما النصح لأئمة المسلمين فطاعتهم [في الحق ومعونتهم فيه ، وأمرهم به وتذكيرهم إياه على أحسن وجه وتنبيههم على ما غفلوا عنه وكتم عنهم من أمور المسلمين ، وترك الخروج عليهم] وأما النصح لعامة المسلمين بإرشادهم إلى مصالحهم ومعاونتهم في أمور دينهم ودنياهم بالقول والفعل ، وتنبيه غافلهم ، وتبصير جاهلهم ، ورفد محتاجهم وستر عوراتهم ، ودفع المضار عنهم ، وجلب المنافع إليهم . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، كلهم عيال الله تعالى ، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله . [ ص: 436 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية