جماع أبواب الكلام على السهو والنسيان هل يصدر منه أم لا  
قال  القاضي عياض   : حدثنا حاتم بن محمد  ، حدثنا أبو عبد الله بن الفخار  ، حدثنا أبو عيسى  ، حدثنا عبيد الله  ، حدثنا يحيى  ، عن  مالك  ، عن  داود بن الحصين  عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد  أنه قال : سمعت  أبا هريرة  رضي الله تعالى عنه يقول : صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ، فسلم في ركعتين ، فقام ذو اليدين  ، فقال : يا رسول الله ، أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كل ذلك لم يكن  . 
وفي الرواية الأخرى : ما قصرت وما نسيت الحديث بقصته ، فأخبره بنفي الحالتين ، وأنها لم تكن ، وقد كان أحد ذلك كما قال ذو اليدين   : قد كان بعض ذلك يا رسول الله . 
قال القاضي   : فاعلم- وفقنا الله وإياك- أن للعلماء في ذلك أجوبة ، بعضها بصدد الإنصاف ، ومنها ما هو بنية التعسف والاعتساف ، وها أنا أقول : 
أما على القول بتجويز الوهم والغلط فيما ليس طريقه من القول البلاغ وهو الذي زيفناه من القولين- فلا اعتراض بهذا الحديث وشبهه . 
وأما على مذهب من يمنع السهو والنسيان في أفعاله جملة ، ويرى أنه في مثل هذا عامد لصورة النسيان ليسن ، فهو صادق في خبره ، لأنه لم ينس ولا قصرت ، ولكنه على هذا القول تعمد هذا الفعل في هذه الصورة لمن اعتراه مثله ، وهو قول مرغوب عنه ونذكره في موضعه . 
وأما على إحالة السهو عليه في الأقوال وتجويز السهو عليه فيما ليس طريقه القول- كما سنذكره- ففيه أجوبة ، منها : 
أن النبي- صلى الله عليه وسلم أخبر عن اعتقاده وضميره ، أما إنكار القصر فحق وصدق باطنا وظاهرا . 
وأما النسيان فأخبر- صلى الله عليه وسلم- عن اعتقاده ، وأنه لم ينس في ظنه ، فكأنه قصد الخبر بهذا عن ظنه وإن لم ينطق به ، وهذا صدق أيضا . 
ووجه ثان : أن قوله : ولم أنس- راجع إلى السلام ، أي إني سلمت قصدا ، وسهوت عن العدد ، أي لم أنسه في نفس السلام ، وهذا محتمل ، وفيه بعد . 
ووجه ثالث- وهو أبعدهما- ما ذهب إليه بعضهم ، وإن احتمله اللفظ من قوله : كل ذلك لم يكن : أي لم يجتمع القصر والنسيان ، بل كان أحدهما . ومفهوم اللفظ خلافه مع الرواية الأخرى الصحيحة ، 
وهو قوله : ما قصرت الصلاة وما نسيت .  [ ص: 467 ] 
هذا ما رأيت فيه لأئمتنا ، وكل من هذه الوجوه محتمل للفظ على بعد بعضها وتعسف الآخر منها . 
قال القاضي أبو الفضل  رحمه الله : والذي أقول- ويظهر لي أنه أقرب من هذه الوجوه كلها- أن قوله- صلى الله عليه وسلم : لم أنس إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه ، وأنكره على غيره بقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا وكذا ، ولكنه نسي . 
وبقوله في بعض روايات الحديث الآخر : لست أنسى ، ولكن أنسى . فلما قال له السائل : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ أنكر قصرها كما كان ، ونسيانه هو من قبل نفسه ، وإنه إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسي حتى سأل غيره ، فتحقق أنه نسي ، وأجري عليه ذلك ليسن ، فقوله على هذا : لم أنس ولم تقصر ، وكل ذلك لم يكن- صدق وحق ، لم تقصر ، ولم ينس حقيقة ، ولكنه نسي . 
ووجه آخر استثرته من كلام بعض المشايخ ، وذلك أنه قال : إن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يسهو ولا ينسى ، ولذلك نفى عن نفسه النسيان ، قال : لأن النسيان غفلة وآفة ، والسهو إنما هو شغل بال ، قال : فكأن النبي- صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته ولا يغفل عنها ، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلا بها لا غفلة عنها . 
فهذا إن تحقق على هذا المعنى لم يكن في قوله : ما قصرت ولا نسيت خلف في قول . 
وعندي أن قوله : ما قصرت الصلاة وما نسيت بمعنى الترك الذي هو أحد وجهي النسيان ، أراد- والله أعلم- إني لم أسلم من ركعتين تاركا لإكمال الصلاة ، ولكني نسيت ، ولم يكن من تلقاء نفسي . 
والدليل على ذلك 
قوله في الحديث الصحيح : إني لأنسى أو أنسى لأسن  . 
قال القاضي   : وهذه الأحاديث مبنية على السهو في الفعل الذي قررناه ، وحكمة الله فيه ليستن به ، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول ، وأرفع للاحتمال ، وشرطه ألا يقر على السهو ، بل يشعر به ليرتفع الالتباس ، وتظهر فائدة الحكمة فيه كما قدمناه ، فإن النسيان والسهو في الفعل في حقه- صلى الله عليه وسلم- غير مضاد للمعجزة ، ولا قادح في التصديق ، 
وقد قال- صلى الله عليه وسلم : «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني»  . 
وقال صلى الله عليه وسلم : «رحم الله فلانا ، لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطهن» - ويروى : أنسيتهن  . 
وقال- صلى الله عليه وسلم : «إني لأنسى ، أو أنسى ، لأسن»  .  [ ص: 468 ] 
قيل : هذا اللفظ شك من الراوي . 
وقد روي : «إني لا أنسى ، ولكن أنسى لأسن»  . 
وذهب ابن نافع  ، وعيسى بن دينار  أنه ليس بشك ، فإن معناه التقسيم ، أي أنسى أنا ، أو ينسيني الله . 
قال القاضي أبو الوليد الباجي   : يحتمل ما قالاه أن يريد : إني أنسى في اليقظة ، وأنسى في النوم ، أو أنسى على سبيل عادة البشر من الذهول عن الشيء والسهو ، وأنسى مع إقبالي عليه وتفرغي له ، فأضاف أحد النسيانين إلى نفسه ، إذ كان له بعض السبب فيه ، ونفى الآخر عن نفسه ، إذ هو فيه كالمضطر . 
وذهبت طائفة من أصحاب المعاني والكلام على الحديث إلى أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يسهو في الصلاة ولا ينسى ، لأن النسيان ذهول وغفلة وآفة ، قال : والنبي- صلى الله عليه وسلم منزه عنها ، والسهو شغل ، فكأن النبي- صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته ، ويشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلا بها لا غفلة عنها . 
واحتج بقوله في الرواية الأخرى : إني لا أنسى  . 
وذهبت طائفة إلى منع هذا كله عنه ، وقالوا : إن سهوه عليه السلام كان عمدا وقصدا ليسن . 
وهذا قول مرغوب عنه ، متناقض المقاصد ، لا يحلى منه بطائل ، لأنه كيف يكون متعمدا ساهيا في حال . ولا حجة لهم في قولهم : إنه أمر بتعمد صورة النسيان ليسن ، لقوله : 
إني لأنسى أو أنسى  . وقد أثبت أحد الوصفين ، ونفى مناقضة التعمد والقصد ، 
وقال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، [فإذا نسيت فذكروني]  . 
وقد مال إلى هذا عظيم من المحققين من أئمتنا ، وهو أبو المظفر الإسفرايني  ، ولم يرتضه غيره منهم ، ولا أرتضيه ، ولا حجة لهاتين الطائفتين في 
قوله : إني لا أنسى ، ولكن أنسى ، 
إذ ليس فيه نفي حكم النسيان بالجملة ، وإنما فيه نفي لفظه وكراهة لقبه ، كقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا ، ولكنه نسي ، أو نفى الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الصلاة عن قلبه ، ولكن شغل بها عنها ، ونسي بعضها ببعضها ، كما ترك الصلاة يوم الخندق  حتى خرج وقتها ، وشغل بالتحرز من العدو عنها ، فشغل بطاعة عن طاعة . 
وقيل : إن الذي ترك يوم الخندق  أربع صلوات : الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، وبه احتج من ذهب إلى جواز تأخير الصلاة في الخوف ، إذا لم يتمكن من أدائها إلى وقت الأمن ، وهو مذهب الشاميين .  [ ص: 469 ] 
والصحيح أن حكم صلاة الخوف كان بعد هذا ، فهو ناسخ له . 
فإن قلت : فما تقول في نومه- صلى الله عليه وسلم عن الصلاة يوم الوادي ، 
قال : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي  . 
فاعلم أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها : أن المراد بأن هذا حكم قلبه عند نومه وعينيه في غالب الأوقات ، وقد يندر منه غير ذلك ، كما يندر من نومه خلاف عادته . 
ويصحح هذا التأويل 
قوله- صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه : إن الله قبض أرواحنا  . 
وقول  بلال  فيه : ما ألقيت علي نومة مثلها قط ، ولكن مثل هذا إنما يكون منه لأمر يريده الله من إثبات حكم ، وتأسيس سنة ، وإظهار شرع ، كما قال في الحديث الآخر : لو شاء الله لأيقظنا ، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم  . 
الثاني- أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه ، لما روي أنه كان محروسا ، وأنه كان ينام حتى ينفخ ، وحتى يسمع غطيطه ، ثم يصلي ولا يتوضأ . 
وحديث  ابن عباس  المذكور فيه وضوؤه عند قيامه من النوم ، فيه نومه مع أهله ، فلا يمكن الاحتجاج به على وضوئه بمجرد النوم ، إذ لعل ذلك لملامسته الأهل أو لحدث آخر ، فكيف وفي آخر الحديث نفسه : ثم نام حتى سمعت غطيطه ، ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يتوضأ . 
وقيل : لا ينام قلبه من أجل أنه يوحى إليه في النوم ، وليس في قصة الوادي إلا نوم عينيه عن رؤية الشمس . وليس هذا من فعل القلب ، 
وقد قال- صلى الله عليه وسلم : إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا  [ ص: 470 ] 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					