الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) أي : اطلبوا للإشهاد شهيدين ، فيكون استفعل للطلب ، ويحتمل أن يكون موافقة أفعل أي : وأشهدوا ، نحو : استيقن موافق أيقن ، واستعجله بمعنى أعجله ، ولفظ شهيد ، للمبالغة ، وكأنهم أمروا بأن يستشهدوا من كثرت منه الشهادة ، فهو عالم بمواقع الشهادة وما يشهد فيه لتكرر ذلك منه ، فأمروا بطلب الأكمل ، وكان في ذلك إشارة إلى العدالة ؛ لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم .

( من رجالكم ) الخطاب للمؤمنين ، وهم المصدر بهم الآية ، ففي قوله : ( من رجالكم ) دلالة على أنه لا يستشهد الكافر ، ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأجاز ذلك أبو حنيفة ، وإن اختلفت مللهم ، وفي ذلك دلالة على اشتراط البلوغ ، واشتراط الذكورة في الشاهدين ، وظاهر الآية أنه : يجوز شهادة العبد ، وهو مذهب شريح ، وابن سيرين ، وابن شبرمة ، وعثمان البتي ، وقيل عنه : يجوز شهادته لغير سيده ، وروي عن علي أنه كان يقول : شهادة العبد على العبد جارية جائزة ، وروى المغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه ، وروي عن أنس أنه قال : ما أعلم أن أحدا رد شهادة العبد ، وقال الجمهور : [ ص: 346 ] أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة في إحدى الروايتين ، ومالك ، وابن صالح ، وابن أبي ليلى ، والشافعي : لا تقبل شهادة العبد في شيء . وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، والحسن .

وظاهر الآية يدل على أن شهادة الصبيان لا تعتبر ، وبه قال الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة ، وابن شبرمة ، والشافعي . وروي ذلك عن عثمان ، وابن عباس ، وابن الزبير . وقال ابن أبي ليلى : تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وروي ذلك عن علي ، قال مالك : تجوز شهادتهم في الجراح وحدها بشروط ذكرت عنه في كتب الفقه .

وظاهر الآية اشتراط الرجولية فقط في الشاهدين ، فلو كان الشاهد أعمى ، ففي جواز شهادته خلاف ، ذهب أبو حنيفة ، ومحمد إلى أنه لا يجوز بحال ، وروي ذلك عن علي ، والحسن ، وابن جبير ، وإياس ابن معاوية ، وقال ابن أبي ليلى ، وأبو يوسف ، والشافعي : إذا علم قبل العمى جازت ، أو بعده فلا . وقال زفر : لا يجوز إلا في النسب يشهد أن فلان بن فلان ، وقال شريح والشعبي : شهادته جائزة ، وقال مالك : يجوز وإن علمه حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوه ، وإن شهد بزنا أو حد قذف لم تقبل شهادته ، ولو كان الشاهد أخرس ، فقيل : تقبل شهادته بإشارة ، وسواء كان طارئا أم أصليا ، وقيل : لا تقبل . وإن كان أصم ، فلا تقبل في الأقوال ، وتقبل فيما عدا ذلك من الحواس .

ولو شهد بدوي على قروي ، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تجوز إلا في الجراح ، وروى ابن القاسم عنه : لا تجوز في الحضر إلا في وصية القروي في السفر وفي البيع .

( فإن لم يكونا رجلين ) الضمير عائد على الشهيدين أي : فإن لم يكن الشهيدان رجلين ، والمعنى أنه : إن أغفل ذلك صاحب الحق ، أو قصد أن لا يشهد رجلين لغرض له ، وكان على هذا التقدير ناقصة ، وقال قوم : بل المعنى : فإن لم يوجد رجلان ، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال ، وهذا لا يتم إلا على اعتقاد أن الضمير في ( يكونا ) عائد على شهيدين ، بوصف الرجولية ، وتكون كان تامة ، ويكون ( رجلين ) منصوبا على الحال المؤكد ، كقوله : ( فإن كانتا اثنتين ) على أحسن الوجهين .

( فرجل وامرأتان ) ارتفاع رجل على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالشاهد ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : فرجل وامرأتان يشهدون ، أو فاعل ، أي : فليشهد رجل ، أو مفعول لم يسم فاعله ، أي : فليستشهد ، وقيل : المحذوف فليكن ، وجوز أن تكون تامة ، فيكون رجل فاعلا ، وأن تكون ناقصة ، ويكون خبرها محذوفا ، وقد ذكرنا أن أصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان لا اقتصارا ولا اختصارا . وقرئ شاذا ( وامرأتان ) بهمزة ساكنة ، وهو على غير قياس ، ويمكن أن سكنها تخفيفا لكثرة توالي الحركات وجاء نظير تخفيف هذه الهمزة في قول الشاعر :


يقولون جهلا ليس للشيخ عيل لعمري لقد أعيلت وأن رقوب



يريد : وأنا رقوب ، قيل : خفف الهمزة بإبدالها ألفا ثم همزة بعد ذلك ، قالوا : الخأتم ، والعأم . وظاهر الآية يقتضي جواز شهادة المرأتين مع الرجل في سائر عقود المداينات ، وهي كل عقد وقع على دين سواء كان بدلا أم بضعا ، أم منافع أم دم عمد ، فمن ادعى خروج شيء من العقود من الظاهر لم يسلم له ذلك إلا بدليل .

وقال الشافعي : لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال ، ولا يجوز في الوصية إلا الرجل ، ويجوز في الوصية بالمال . وقال الليث : تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق ، ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا قتل العمد الذي يقاد منه . وقال الأوزاعي : لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح . وقال الحسن بن حيي : لا تجوز شهادتهن في الحدود . وقال الثوري : تجوز في كل شيء إلا الحدود . وقال مالك : لا تجوز في الحدود ولا القصاص ، ولا الطلاق ولا النكاح ، ولا الأنساب ولا الولاء ولا الإحصان ، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق . وقال الحسن ، والضحاك : لا تجوز [ ص: 347 ] شهادتهن إلا في الدين . وقال عمر ، وعطاء ، والشعبي : تجوز في الطلاق . وقال شريح : تجوز في العتق ، وقال عمر ، وابنه عبد الله : تجوز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح . وقال علي تجوز في العقد . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وعثمان البتي : لا تقبل شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ، وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق . وأدلة هذه الأقوال مذكورة في كتب الفقه .

وأما قبول شهادتهن مفردات فلا خلاف في قبولها في : الولادة ، والبكارة ، والاستهلال ، وفي عيوب النساء الإماء وما يجري مجرى ذلك مما هو مخصوص بالنساء ، وأجاز أبو حنيفة شهادة الواحدة العدلة في رؤية الهلال ، إذ هو عنده من باب الإخبار ، وكذلك شهادة القابلة مفردة .

( ممن ترضون من الشهداء ) قيل : هذا في موضع الصف لقوله : ( فرجل وامرأتان ) وقيل : هو بدل من قوله : ( رجالكم ) على تكرير العامل ، وهما ضعيفان ؛ لأن الوصف يشعر باختصاصه بالموصوف ، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن شهيدين ، ولأن البدل يؤذن بالاختصاص بالشهيدين الرجلين ، فعري عنه ( رجل وامرأتان ) والذي يظهر أنه متعلق بقوله : ( واستشهدوا ) أي : واستشهدوا ممن ترضون من الشهداء ، ليكون قيدا في الجميع ، ولذلك جاء متأخرا بعد ذكر الجميع ، والخطاب في ( ترضون ) ظاهره أنه للمؤمنين ، وفي ذلك دلالة على أن في الشهود من لا يرضى ، فيدل هذا على أنهم ليسوا محمولين على العدالة حيث تثبت لهم . وقال ابن بكير وغيره : الخطاب للحكام ، والأول أولى لأنه الظاهر ، وإن كان المتلبس بهذه القضايا هم الحكام ، ولكن يجيء الخطاب عاما ويتلبس به بعض الناس ، وقيل : الخطاب لأصحاب الدين .

واختلفوا في تفسير قوله : ( ممن ترضون ) فقال ابن عباس : من أهل الفضل والدين والكفاءة ، وقال الشعبي : ممن لم يطعن في فرج ولا بطن ، وفسر قوله بأنه لم يقذف امرأة ولا رجلا ، ولم يطعن في نسب . وروي : من لم يطعن عليه في فرج ولا بطن ، ومعناه : لا ينسب إلى ريبة ، ولا يقال : إنه ابن زنا . وقال الحسن : من لم تعرف له خربة . وقال النخعي : من لا ريبة فيه . وقال الخصاف : من غلبت حسناته سيآته مع اجتناب الكبائر .

وقيل : المرضي من الشهود من اجتمعت فيه عشر خصال : أن يكون حرا ، بالغا ، مسلما ، عدلا ، عالما بما يشهد به ، لا يجر بشهادته منفعة لنفسه ، ولا يدفع بها عن نفسه مضرة ، ولا يكون معروفا بكثرة الغلط ، ولا بترك المروءة ، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة .

وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف : أن من سلم من الفواحش التي يجب فيها الحدود ، وما يجب فيها من العظائم ، وأدى الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار ، قبلت شهادته ؛ لأنه لا يسلم عبد من ذنب ، ولا تقبل شهادة من ذنوبه أكثر من أخلاق البر ، ولا من يلعب بالشطرنج يقامر عليها ، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها ، ولا تارك الصلوات الخمس في جماعة استخفافا أو مجانة أو فسقا ، لا أن تركها على تأويل ، وكان عدلا ، ومن يكثر الحلف بالكذب ، ولا مداوم على ترك ركعتي الفجر ، ولا معروف بالكذب الفاحش ، ولا مظهر شتيمة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شتام الناس والجيران ، ولامن اتهمه الناس بالفسق والفجور ، ولا متهم بسب الصحابة حتى يقولوا : سمعناه يشتم .

وقال ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : تقبل شهادة أهل الأهواء العدول ، إلا صنفا من الرافضة وهم الخطابية . وقال محمد : لا أقبل شهادة الخوارج ، وأقبل شهادة الحرورية ؛ لأنهم لا يستحلون أموالنا ، فإذا خرجوا استحلوا . وروي عن أبي حنيفة أنه : لا يجوز شهادة البخيل . وعن إياس بن معاوية لا يجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء ، ولا التجار الذين يركبون البحر ، وعن بلال بن أبي بردة ، وكان على البصرة ، أنه لا يجيز شهادة من يأكل الطين وينتف لحيته ، ورد عمر بن عبد العزيز شهادة من ينتف عنفقته ويخفي لحيته ، ورد شريح شهادة [ ص: 248 ] رجل اسمه ربيعة ويلقب بالكويفر ، فدعي : يا ربيعة ، فلم يجب ، فدعي : يا ربيعة الكويفر ، فأجاب ، فقال له شريح : دعيت باسمك فلم تجب ، فلما دعيت بالكفر أجبت فقال : أصلحك الله ، إنما هو لقب ، فقال له : قم ، وقال لصاحبه : هات غيره . وعن أبي هريرة : لا يجوز شهادة أصحاب الحمر ، يعني : النخاسين . وعن شريح : لا يجيز شهادة صاحب حمام ، ولا حمال ، ولا ضيق كم القباء ، ولا من قال : أشهد بشهادة الله عز وجل ، وعن محمد : لا تقبل شهادة من ظهرت منه مجانة ، ولا شهادة مخنث ، ولا لاعب بالحمام يطيرهن ، ورد ابن أبي ليلى شهادة الفقير ، وقال : لا يؤمن أن يحمله فقره على الرغبة في المال .

وقال مالك : لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير ، وتجوز في الشيء التافه . وعن الشافعي : إذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته ، وعنه : إذا كان أكثر أمره الطاعة ، ولم يقدم على كبيرة ، فهو عدل ، وينبغي أن تفسر المروءة بالتصاون ، والسمت الحسن ، وحفظ الحرمة ، وتجنب السخف ، والمجون ، لا تفسر بنظافة الثوب ، وفراهة المركوب ، وجودة الآلة ، والشارة الحسنة ؛ لأن هذه ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين .

واختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة ، هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد ؟ ففي كتاب عمر لأبي موسى : والمسلمون عدول ، بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد ، أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا أو قرابة ، وكان الحسن ، لما ولي القضاء ، يجيز شهادة المسلمين إلا أن يكون الخصم يجرح الشاهد . وقال ابن شبرمة : إن طعن المشهود عليه فيهم سألت عنهم في السر والعلانية . وقال محمد ، وأبو يوسف : يسأل عنهم ، وإن لم يطعن فيهم في السر والعلانية ، وقال مالك : لا يقضى بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السر . وقال الليث : إنما كان الوالي يقول للخصم : إن كان عندك من يخرج شهادتهم فأت به ، وإلا أجزنا شهادتهم عليك . وقال الشافعي : يسأل عنه في السر ، فإذا عدل سأل عن تعديله في العلانية .

وأما ما ذكر من اعتبار نفي التهمة عن الشاهد إذا كان عدلا ، فاتفق فقهاء الأمصار على بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده إلا ما حكي عن البتي ، قال : تجوز شهادة الولد لوالديه ، والأب لابنه وامرأته ، وعن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لابنه . وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث إلى أنه : لا يجوز شهادة أحد الزوجين للآخر . وعن أبي حنيفة : لا تجوز شهادة الأجير الخاص لمستأجره ، وتجوز شهادة الأجير المشترك له . وقال مالك : لا تجوز شهادة أجير لمن استأجره إلا أن يكون مبرزا في العدالة . وقال الأوزاعي : لا تجوز مطلقا . وقال الثوري : تجوز إذا كان لا يجر إلى نفسه منفعة .

ومن وردت شهادته لمعنى ، ثم زال ذلك المعنى ، فهل تقبل تلك الشهادة فيه ؟ قال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا تقبل إذا ردت لفسق أو زوجية ، وتقبل إذا ردت لرق أو كفر أو صبي . وقال مالك : لا تقبل إن ردت لرق أو صبي . وروي عن عثمان بن عفان مثل هذا .

وظاهر الآية : أن الشهود في الديون رجلان ، أو رجل وامرأتان ، ممن ترضون ، فلا يقضى بشاهد واحد ويمين ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، والثوري والحكم ، والأوزاعي ، وبه قال عطاء ، وقال : أول من قضى به عبد الملك ابن مروان ، وقال الحكم : أول من حكم به معاوية .

واختلف عن الزهري فقيل : قال : هذا شيء أحدثه الناس لا بد من شهيدين ، وقال أيضا : ما أعرفه ، وإنها البدعة ، وأول من قضاه معاوية ، وروي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين وقال مالك ، والشافعي وأتباعهما ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : يحكم به في الأموال خاصة ، وعليه الخلفاء الأربعة وهو عمل أهل المدينة ، وهو قول أبي بن كعب ، ومعاوية ، وأبي سلمة ، وأبي الزياد ، وربيعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية