الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) قرأ الأعمش ، وحمزة ( إن تضل ) بكسر الهمزة ، جعلها حرف شرط ( فتذكر ) بالتشديد ورفع الراء وجعله جواب الشرط ، وقرأ [ ص: 349 ] الباقون بفتح همزة ( أن ) وهي الناصبة ، وفتح راء ( فتذكر ) عطفا على : أن تضل ، وسكن الذال وخفف الكاف ابن كثير ، وأبو عمرو ، وفتح الذال وشدد الكاف الباقون من السبعة .

وقرأ الجحدري وعيسى بن عمران ( تضل ) بضم التاء وفتح الضاد مبنيا للمفعول ، بمعنى : تنسى ، كذا حكى عنهما الداني ، وحكى النقاش عن الجحدري ( أن تضل ) بضم التاء وكسر الضاد ، بمعنى أن تضل الشهادة ، تقول : أضللت الفرس والبعير إذا ذهبا فلم تجدهما .

وقرأ حميد بن عبد الرحمن ، ومجاهد ( فتذكر ) بتخفيف الكاف المكسورة ، ورفع الراء ، أي : فهي تذكر ، وقرأ زيد بن أسلم ( فتذاكر ) من الذاكرة .

والجملة الشرطية من قوله : ( أن تضل إحداهما فتذكر ) على قراءة الأعمش وحمزة ، قال ابن عطية : في موضع رفع بكونه صفة للمذكر ، وهما المرأتان ، انتهى ، كان قد قدم أن قوله : ( ممن ترضون من الشهداء ) في موضع الصفة لقوله : ( فرجل وامرأتان ) فصار نظير : جاءني رجل وامرأتان عقلاء حبليان ، وفي جواز مثل هذا التركيب نظر ، بل الذي تقتضيه الأقيسة تقديم حبليان على عقلاء ، وأما على قول من أعرب ( ممن ترضون ) بدلا من ( رجالكم ) وعلى ما اخترناه من تعلقه بقوله : ( واستشهدوا ) فلا يجوز أن تكون جملة الشرط صفة لقوله : ( وامرأتان ) للفصل بين الموصوف والصفة بأجنبي ، وأما ( أن تضل ) بفتح الهمزة ، فهو في موضع المفعول من أجله ، أي : لأن تضل على تنزيل السبب - وهو الإضلال - منزلة المسبب عنه ، وهو الإذكار ، كما ينزل المسبب منزلة السبب لالتباسهما واتصالهما ، فهو كلام محمول على المعنى ، أي : لأن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ، ونظيره : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يطرق العدو فأدفعه ، ليس إعداد الخشبة لأجل الميل إنما إعدادها لإدعام الحائط إذا مال ، ولا يجوز أن يكون التقدير : مخالفة أن تضل ، لأجل عطف ( فتذكر ) عليه .

وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان يحكي عن أبي العباس أن التقدير : كراهة أن تضل ، قال أبو جعفر : وهذا غلط ، إذ يصير المعنى كراهة أن تذكر ، ومعنى الضلال هنا هو عدم الاهتداء للشهادة لنسيان أو غفلة ، ولذلك قوبل بقوله : ( فتذكر ) وهو من الذكر ، وأما ما روي عن أبي عمرو بن العلاء ، وسفيان بن عيينة من أن قراءة التخفيف ( فتذكر ) معناه : تصيرها ذكرا في الشهادة ؛ لأن شهادة امرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموع شهادتهما كشهادة ذكر ، فقال الزمخشري : من بدع التفاسير . وقال ابن عطية : هذا تأويل بعيد غير صحيح ، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر ، انتهى .

وما قالاه صحيح ، وينبو عنه اللفظ من جهة اللغة ومن جهة المعنى ، أما من جهة اللغة فإن المحفوظ أن هذا الفعل لا يتعدى ، تقول : أذكرت المرأة فهي مذكر إذا ولدت الذكور ، وأما : أذكرت المرأة ، أي : صيرتها كالذكر ، فغير محفوظ ، وأما من جهة المعنى ، فإن لو سلم أن : أذكر ، بمعنى صيرها ذكرا فلا يصح ؛ لأن التصيير ذكرا شامل للمرأتين ، إذ ترك شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر فليست إحداهما أذكرت الأخرى على هذا التأويل ، إذ لم تصير شهادتهما وحدها بمنزلة شهادة ذكر .

ولما أبهم الفاعل في ( أن تضل ) بقوله : ( إحداهما ) أبهم الفاعل في : ( فتذكر ) بقوله : ( إحداهما ) إذ كل من المرأتين يجوز عليها الضلال ، والإذكار ، فلم يرد بـ ( إحداهما ) معينة ، والمعنى : إن ضلت هذه أذكرتها هذه ، وإن ضلت هذه أذكرتها هذه ، فدخل الكلام معنى العموم ، وكأنه قيل : من ضل منهما أذكرتها الأخرى ، ولو لم يذكر بعد ( فتذكر ) الفاعل مظهرا للزم أن يكون أضمر المفعول ليكون عائدا على ( إحداهما ) الفاعل بـ ( تضل ) ويتعين أن يكون ( الأخرى ) هو الفاعل ، فكان يكون التركيب : فتذكرها الأخرى ، وأما على التركيب القرآني فالمتبادر إلى الذهن أن ( إحداهما ) فاعل ( تذكر ) و ( الأخرى ) هو المفعول ، ويراد به الضالة ؛ لأن كلا من الاسمين مقصور ، فالسابق هو الفاعل ، ويجوز أن يكون ( إحداهما ) [ ص: 350 ] مفعولا ، والفاعل هو الأخرى لزوال اللبس ، إذ معلوم أن المذكرة ليست الناسية ، فجاز أن يتقدم المفعول ويتأخر الفاعل ، فيكون نحو : كسر العصا موسى ، وعلى هذا الوجه يكون قد وضع الظاهر موضع المضمر المفعول ، فيتعين إذ ذاك أن يكون الفاعل هو ( الأخرى ) ومن قرأ ( أن ) بفتح الهمزة ، و ( فتذكر ) بالرفع على الاستئناف ، قيل : وقال : ( أن تضل إحداهما ) المعنى : أن النسيان غالب على طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة ، واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان عن المرأة الواحدة ، فأقيمت المرأتان مقام الرجل ، حتى إن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى ، وفيه دلالة على تفضيل الرجل على المرأة .

و ( تذكر ) يتعدى لمفعولين ، والثاني محذوف ، أي : فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، وفي قوله ( فتذكر إحداهما الأخرى ) دلالة على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر الشاهد لها ، وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط ، إذ الخط والكتابة مأمور به لتذكر الشهادة ، ويدل عليه قوله : ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) وإذا لم يذكرها فهو غير عالم بها .

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والشافعي : إذا كتب خطه بالشهادة فلا يشهد حتى يذكرها ، وقال محمد بن أبي ليلى : إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها ، وقال الثوري : إذا ذكر أنه شهد ، ولا يذكر عدد الدراهم ، فإنه لا يشهد .

( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) قال قتادة : سبب نزولها أن الرجل كان يطوف في الحراء العظيم ، فيه القوم ، فلا يتبعه منهم أحد ، فأنزلها الله . وظاهر الآية أن المعنى : ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة إذا ما دعوا لها ، قاله ابن عباس وقتادة ، والربيع وغيرهم ، وهذا النهي ليس نهي تحريم ، فله أن يشهد ، وله أن لا يشهد ، قاله عطاء ، والحسن . وقال الشعبي : إن لم يوجد غيره تعين عليه أن يشهد ، وإن وجد فهو مخير ، وقيل : المعنى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وإبراهيم ، ولاحق بن حميد ، وابن زيد . وروى النقاش : هكذا فسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو صح هذا عنه ، عليه السلام ، لم يعدل عنه فيكون نهي تحريم .

وقال ابن عباس أيضا ، والحسن ، والسدي : هي في التحمل والإقامة إذا كان فارغا ، وقال ابن عطية : والآية كما قال الحسن ، جمعت الأمرين ، والمسلمون مندوبون إلى معاونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة في كثرة الشهود ، والأمن من تعطيل الحق ، فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر وأن يتخلف لغير عذر ، ولا إثم عليه ، وإذا كانت الضرورة ، وخيف تعطيل الحق أدنى خوف ، قوي الندب وقرب من الوجوب ، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة ، فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة ، وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الطرف آكد ؛ لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء ، انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية