الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله عليه السلام : " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه " . وأنه لم يذكر الجدال ، انتهى كلامه . وفيه تعقبات .

الأول : تأويله على أبي عمرو ، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع ، والثالث على الإخبار بسبب البناء ، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئا من ذلك ، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنيا ، وأما أن الرفع يقتضي النهي والبناء يقتضي الخبر فلا ، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك ، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم ، وقراءة الرفع مرجحة له ، فقراءتهما الأولين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح ، إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلا على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب .

الثاني قوله كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال : لأنه قال قبل : ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين . وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير .

الثالث : أن التاريخ الذي ذكره هو قولان - في تفسير " ولا جدال " - للمتقدمين ، اختلافهم في الموقف لابن زيد ، ومالك ، والنسيء لمجاهد ، فجعلهما هو شيئا واحدا سببا للإخبار أن لا جدال في الحج .

الرابع : قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه ، ولا دليل في ذلك : لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله : ( ولا فسوق ) لعمومه ، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى ، فلا يجعل ذلك شرطا في غفران الذنوب ، فلذلك رتب - صلى الله عليه وسلم - غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه ، الجائز في غير الحج ، وهو الجماع المكنى عنه بالرفث : ومن المحظور الممنوع منه مطلقا في الحج وفي غيره ، وهو معصية الله المعبر عنها بالفسوق ، وجاء قوله " ولا جدال " من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج من إفراغ أعماله للحج ، وعدم المخاصمة والمجادلة . فمقصد الآية غير مقصد الحديث ، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة ، وفي الحديث اقتصر على الاثنين .

وقد بقي الكلام على هذه الجملة ، أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخبارا ؟ أو صورتها صورة النفي والمراد به النهي ؟ اختلفوا في ذلك ، فقال في ( المنتخب ) قال أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهي ، أي : فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى : ( لا ريب فيه ) أي : لا ترتابوا فيه ، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر ، ويحتمل النهي ، فإذا حمل على الخبر فمعناه أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ، فهو كالضد لها ، وهي مانعة من صحته ، ولا يستقيم هذا المعنى إلا إن أريد بالرفث الجماع ، والفسوق الزنا ، وبالجدال الشك في الحج وفي وجوبه : لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج ، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر الله : لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، وإذا حمل على النهي ، وهو خلاف الظاهر ، صلح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته ، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعها لإطلاق اللفظ ، فيتناول جميع أقسامه : لأن النهي عن الشيء نهي [ ص: 91 ] عن جميع أقسامه . وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة ، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية بقوله : ( فلا رفث ) ، وإلى قهر القوة النفسانية بقوله : ( ولا فسوق ) ، وإلى قهر القوة الوهمية بقوله : ( ولا جدال ) ، فذكر هذه الثلاثة : لأن منشأ الشر محصور فيها ، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى الله والذب عن دينه . انتهى ما لخصناه من كلامه .

والذي نختاره أنها جملة صورتها صورة الخبر ، والمعنى على النهي : لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب ، ألا ترى أنه لو قال إنسان مثلا : من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته ، ولا زنا بغيرها ، ولا كفر في الصلاة ، يريد الخبر ، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله : من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره ؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهن فيه ، هكذا الترتيب العربي الفصيح ، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج ، حتى كأنه مما لا يوجد ، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد . وقال في ( المنتخب ) أيضا : إن كان المراد بالرفث الجماع : فيكون نهيا عن ما يقتضي فساد الحج ، والإجماع منعقد على ذلك ، ويكون نفيا للصحة مع وجوده ، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع ، أو الفحش من الكلام ، فيكون نهيا لكمال الفضيلة . وقال ابن العربي ليس نفيا لوجود الرفث ، بل نفي لمشروعيته ، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه ، وأخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا ، لا إلى وجوده محسوسا ، كقوله : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ، ومعناه مشروعا لا محسوسا ، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي ، وهذا كقوله : ( لا يمسه إلا المطهرون ) ، إذا قلنا إنه وارد في الآدميين وهو الصحيح : لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا ، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء ، فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النهي ، وما وجد ذلك قط ، ولا يصح أن يوجد ، فإنهما يختلفان حقيقة ، ويتباينان وصفا ، انتهى كلام ابن العربي . وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال ، أحدها : أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي الجماع ، والزنا ، والكفر . الثاني : أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود . الثالث : أنها إخبار صورة ، والمراد بها النهي . الرابع : التفرقة في قراءة ابن كثير ، وابن عمر ، وبأن الأولين في معنى النهي ، والثالث خبر ، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت " من " شرطية ، وفي موضع الخبر إن كانت " من " موصولة . وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزاء بالشرط ، إذا كان الشرط بالاسم ، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول ، إذا لم يكن إياه في المعنى ، ولا رابط هنا ملفوظ به ، فوجب أن يكون مقدرا . ويحتمل وجهين . أحدهما : أن يقدر منه بعد " ولا جدال " ، ويكون منه في موضع الصفة ، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه ، ومنه صفة للمنوين . والثاني : أن يقدر بعد الحج ، وتقديره : في الحج منه أو له ، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط .

وللكوفيين تخريج في مثل هذا ، وهو أن تكون الألف واللام عوضا من الضمير ، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله " في الحج " في حجه ، فنابت الألف واللام عن الضمير ، وحصل بها الربط . قال بعضهم : وكرر في الحج ، فقال : في الحج ، ولم يقل فيه ، جريا على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر ، كقول الشاعر :


لا أرى الموت يسبق الموت شيء



انتهى كلامه ، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول ، ولمجيئه في جملة غير الجملة الأولى ، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائدا على " من " ، لا على الحج ، أي : في فارض [ ص: 92 ] الحج . وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الأخبار النهي ، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهيا عنها في الحج . أما الرفث فأكثر أهل العلم ، خلفا وسلفا ، أنه يراد به هنا الجماع ، وأنه منهي عنه بالآية ، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج ، وأن مقدماته توجب الدم ، إلا ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريرة ، أنه سمعه يقول : " للمحرم من امرأته كل شيء إلا الجماع " . وقد اتفقت الأمة على خلافه ، وعلى أن من قبل امرأته بشهوة فعليه دم ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وإبراهيم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وهو قول فقهاء الأمصار . وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل امرأته ومباشرتها ، ويتجنب الوطء .

وأما الفسوق والجدال ، وإن كان منهيا عنهما في غير الحج ، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيما لحرمة الحج : ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير لفعل هذه العبادة ، أفحش وأعظم منه في غيرها . ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حق الصائم : " فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني صائم " ؟ وإلى قوله وقد صرف وجه الفضل بن العباس عن ملاحظة النساء في الحج : " إن هذا يوم ، من ملك فيه سمعه وبصره غفر له " . ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم ، ولكنه خصه بالذكر تعظيما لحرمته . وفي قوله " ولا فسوق " إشارة إلى أنه يحدث للحج توبة من المعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية