( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء  هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء    ) ( شيء ) نكرة في سياق النفي ، فتعم ، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات  ، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء ؛ إذ هما أعظم ما نشاهده ، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة ، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية ؛ إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم ، وفي ذلك رد على النصارى  ، إذ شبهتهم في ادعاء إلهية عيسى   كونه يخبر بالغيوب ، وهذا راجع إلى العلم ، وكونه : يحيي الموتى ، وهو راجع إلى القدرة ، فنبهت الآية   [ ص: 380 ] على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء ، فلا يخفى عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى  عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى  لم يكن عالما بجميع المعلومات ، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى  قادرا على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلها  ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى  لم يكن قادرا على تركيب الصور وإحيائها ، بل إنباؤه ببعض المغيبات ، وخلقه وإحياؤه بعض الصور ، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي ، وإقداره تعالى له على ذلك ، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها وأمثالها على أيدي رسله ، وفي ذكر التصوير في الرحم رد على من زعم أن عيسى  إله ؛ إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم . 
وقيل : في قوله : ( لا يخفى عليه شيء    ) تحذير من مخالفته سرا وجهرا ، ووعيد بالمجازاة ، وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى  ، عليه السلام ، وقال  الزمخشري    : مطلع على كفر من كفر ، وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه ، وقال الماتريدي    : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق ، فكيف تخفى عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم ؟ وكل هذه تخصيصات ، واللفظ عام ، فيندرج فيه هذا كله ، وقال الراغب    : لا يخفى عليه شيء  أبلغ من ( يعلم ) في الأصل ، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحدا . 
وقال محمد بن جعفر بن الزبير  ، والربيع  ، في قوله : ( هو الذي يصوركم    ) رد على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة ( كيف يشاء ) قال الماتريدي    : فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب ؛ لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه ، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور ؟ انتهى ، والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة ، فتكون الأولى إخبارا عنه تعالى بالعلم التام ، والثانية إخبارا بالقدرة التامة وبالإرادة ، والثالثة بالانفراد بالإلهية ، ويحتمل أن يكون خبرا عن : إن . 
وقال الراغب  ، هنا ( يصوركم ) بلفظ الحال ، وفي موضع آخر ( فصوركم ) لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله ، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات ، وأيضا ( فصوركم ) إنما هو على نسبة التقدير ، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه ( ويصوركم ) على حسب ما يظهر لنا حالا فحالا ، انتهى . 
وقرأ  طاوس    ( تصوركم ) أي : صوركم لنفسه ولتعبده ، كقولك : أثلت مالا ، أي : جعلته أثلة ، أي : أصلا ، وتأثلته إذا أثلته لنفسك وتأتي : تفعل بمعنى : فعل ، نحو : تولى ، بمعنى : ولى . 
ومعنى ( كيف يشاء    ) أي : من الطول والقصر ، واللون ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من الاختلافات ، وفي قوله : ( كيف يشاء    ) إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب ؛ لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط . 
و ( كيف ) هنا للجزاء ، لكنها لا تجزم ، ومفعول ( يشاء ) محذوف لفهم المعنى ، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم ، كقوله : ( ينفق كيف يشاء    ) أي : كيف يشاء أن ينفق ، و ( كيف ) منصوب : بـ ( يشاء ) والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم ، ونصبه على الحال ، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : أنت ظالم ، إن فعلت فأنت ظالم ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب ، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى ، فتعلقها كتعلق إن فعلت ، كقوله : أنت ظالم . 
وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه ، لا يهتدى له إلا بعد تمرن في الإعراب ، واستحضار للطائف النحو . 
وقال بعضهم : ( كيف يشاء    ) في موضع الحال ، معمول ( يصوركم ) ومعنى الحال أي : يصوركم في الأرحام قادرا على تصويركم مالكا ذلك ، وقيل : التقدير في هذه الحال : يصوركم على مشيئته ، أي : مريدا ، فيكون حالا من ضمير اسم الله ، ذكره أبو البقاء  ، وجوز أن يكون حالا من المفعول ، أي : يصوركم منقلبين على مشيئته . 
وقال الحوفي    : يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة ، وكما يشاء . 
( لا إله إلا هو العزيز الحكيم    ) كرر هذه   [ ص: 381 ] الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى  ، وانحصارها فيه ، توكيدا لما قبلها من قوله : ( لا إله إلا هو    ) وردا على من ادعى إلهية عيسى  ، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة ، إذ من هذان الوصفان له هو المتصف بالإلهية لا غيره ، ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير ، والحكمة الموجبة لتصوير الأشياء على الإتقان التام . 
( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات    ) مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني ، وكان قد جرى لوفد نجران  أن من شبههم قوله : ( وروح منه    ) فبين أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوها . 
ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابه ، وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة  ، بمعنى كونه كاملا ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله : ( كتابا متشابها    ) معناه يشبه بعضه بعضا في الجنس والتصديق ، وأما هنا فالتشابه ما احتمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو : ( إن البقر تشابه علينا    ) ( وأتوا به متشابها    ) أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما ، ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحا أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح مؤول ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما ، والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه ؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين . 
قال  ابن عباس  ،  وابن مسعود  ، وقتادة  ، والربيع  ، والضحاك    : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ ، وقال مجاهد  ، وعكرمة    : المحكم ما بين تعالى حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه ، وقال  جعفر بن محمد  ، ومحمد بن جعفر بن الزبير  ،  والشافعي    : المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها ، وقال ابن زيد    : المحكم ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت . وقال  جابر بن عبد الله  ، وابن ذئاب  ، وهو مقتضى قول  الشعبي   والثوري  وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى    . 
وقال أبو عثمان    : المحكم الفاتحة . وقال محمد بن الفضل    : سورة الإخلاص ؛ لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط . وقال محمد بن إسحاق    : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف . وقال مقاتل    : المحكمات خمسمائة آية ؛ لأنها تبسط معانيها ، فكانت أم فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال . 
وقال  يحيي بن يعمر    : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد ; والمتشابه : القصص والأمثال ، وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال ، والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان . وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : ( فإذا هي حية تسعى    ) ( فإذا هي ثعبان مبين    ) و ( قلنا احمل    ) و ( فاسلك    ) . 
وقال أبو فاختة    : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كـ ( الم ) و ( المر ) وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول . وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات ( الم ) و ( المر ) وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها ، حين سمعوا ( الم ) فقالوا : هذه بالجمل : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا ( الر ) وغيرها ، اشتبهت عليهم ، أو ما اشتبه من النصارى  من قوله : ( وروح منه    ) . 
وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء . وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله :   [ ص: 382 ]   ( قل تعالوا أتل    ) الآيات ، ( وقضى ربك    ) الآيات ، وما سوى المحكم متشابه ، وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ؛ لأنها ظاهرة بينة ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك . وقال  ابن أبي نجيح    : المحكم ما فيه الحلال والحرام . وقال ابن خويز منداد    : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، علي  وابن عباس  يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر  وزيد   وابن مسعود  يقولون : وضع الحمل ، وخلافهم في النسخ . وكالاختلاف في الوصية للوارث هل نسخت أم لا ، ونحو تعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدم إذا لم يعرف النسخ ؟ نحو : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم    ) يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف    ) يمنع من ذلك ؟ 
ومعنى ( أم الكتاب ) معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل ، وقال  يحيى بن يعمر    : هذا كما يقال لمكة    : أم القرى  ، ولمرو    : أم خراسان  ، وأم الرأس : لمجتمع الشئون ؛ إذ هو أخطر مكان . 
وقال ابن زيد    : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ؛ لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية    ) ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون ( هن ) أي : كل واحدة منهن ، نحو : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة    ) أي : كل واحد منهم . قيل : ويحتمل أنه أفرد في موضع الجمع ، نحو : ( وعلى سمعهم    ) وقال  الزمخشري    : ( أم الكتاب ) أي : أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها ، ومثال ذلك : ( لا تدركه الأبصار    ) ، ( إلى ربها ناظرة    ) ، ( لا يأمر بالفحشاء    ) ، ( أمرنا مترفيها    ) انتهى ، وهذا على مذهبه الاعتزالي في أن الله لا يرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار ، والمتشابه قوله : ( إلى ربها ناظرة    ) ، وأهل السنة  يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرؤية ، وذكر من المحكم : ( وما كان ربك نسيا    ) ، ( لا يضل ربي ولا ينسى    ) ومتشابهه : ( نسوا الله فنسيهم    ) ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك ، وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه ، فقوله : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر    ) عند المعتزلة  محكم ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله    ) متشابه ، وغيرهم بالعكس . 
وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظيا فلا يتم إلا بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصا أو أرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية ، فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ؛ لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل . 
ومن الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه وقال : يقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر : ( وجعلنا على قلوبهم أكنة    ) ، ( وفي آذانهم وقرا    ) ، والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله : ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر    ) وفي موضع آخر : ( وقالوا قلوبنا غلف    ) . 
ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله : ( إلى ربها ناظرة    ) والآخرون ، بقوله : ( لا تدركه الأبصار    ) ، ومثبتو الجهة بقوله : ( يخافون ربهم من فوقهم    ) وبقوله : ( على العرش استوى    ) والآخرون بقوله : ( ليس كمثله شيء    ) فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوح إليه هكذا ؟ انتهى كلام  الفخر الرازي  ، وبعضه ملخص . 
وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره  الزمخشري  ، قال : فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكما ؟ قلت : لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله   [ ص: 383 ] وتوحيده إلا به ، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في استخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند الله ، ولأن المؤمن - المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف - إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح الله عليه ، وتبين مطابقة المتشابه المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده ، وقوة في إتقانه ، انتهى كلام  الزمخشري  ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمتشابه في القرآن . 
ولما ذكر تعالى أول السورة ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب    ) ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه ، وقوله : ( منه آيات محكمات    ) إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكما ومتشابها ، وارتفع ( آيات ) ، على الفاعلية بالمجرور ؛ لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الابتداء ، والجملة حالية ، ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالإحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله : ( وأخر متشابهات    ) فأخر صفة لآيات محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد أخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلا بمعنى أن بعضها يشبه بعضا ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلا بين اثنين فصاعدا ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ؛ لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ( رجلين يقتتلان    ) وإن كان لا يقال : رجل يقتتل ، وتقدم الكلام على أخر في قوله : ( فعدة من أيام أخر    ) فأغنى عن إعادته هنا . 
وذكر ابن عطية  أن المهدوي  خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام  سيبويه  ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي    . 
( فأما الذين في قلوبهم زيغ    ) هم نصارى نجران  لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى  ، قاله الربيع  ، أو اليهود ، قاله  ابن عباس  ، والكلبي  ؛ لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقطعة ، والزيغ : عنادهم . 
وقال  الطبري    : هو الأشبه ، وذكر محاورة حيي بن أخطب  وأصحابه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل ؟ ونحن لا نؤمن بهذا ، فأنزل الله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب    ) الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ،  ابن مسعود  ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد  ، ومحمد بن جعفر بن الزبير  ، وغيرهم . 
وقال قتادة    : هم منكرو البعث ، فإنه قال في آخرها ( وما يعلم تأويله إلا الله    ) وما ذاك إلا يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق ، وقال قتادة  أيضا : هم الحرورية ، وهم الخوارج ، ومن تأول آية لا في محلها ، وقال أيضا : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدري من هم . وقال  ابن جريج    : هم المنافقون ، وقيل : هم جميع المبتدعة . 
وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ . 
( فيتبعون ما تشابه منه    ) قال القرطبي    : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجسمة إذ أثبتوا أنه جسم وصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع ، وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل  ابن عباس  عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو : ( ولا يتساءلون    ) ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون    ) ( ولا يكتمون الله حديثا    ) ( والله ربنا ما كنا مشركين    ) ونحو ذلك ، وأجابه  ابن عباس  بما أزال عنه التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ  مع عمر  ، فضرب عمر  رأسه حتى جرى دمه على وجهه ، انتهى كلامه ملخصا . 
( ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله    ) علل اتباعهم للمتشابه بعلتين : إحداهما : ابتغاء   [ ص: 384 ] الفتنة ، قال  السدي  ، وربيع  ، ومقاتل  ، وابن قتيبة    : هي الكفر . وقال مجاهد    : الشبهات واللبس . وقال  الزجاج    : إفساد ذات البين . وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران    . 
والعلة الثانية : ابتغاء التأويل ، قال  ابن عباس    : ابتغوا معرفة مدة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل : التأويل : التفسير ، نحو ( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا    ) وقال  ابن عباس  أيضا : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة ، وقال  الزجاج    : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون  من البعث والعذاب يقول الذين نسوه  أي : تركوه قد جاءت رسل ربنا  أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل ، وقال  السدي    : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء ، وقيل : ( تأويله ) طلب كنه حقيقته وعمق معانيه ، وقال  الفخر الرازي  كلاما ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة ؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف . 
وقال :  الزمخشري    : ( الذين في قلوبهم زيغ    ) هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ، ( ابتغاء الفتنة ) طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، و ( ابتغاء تأويله ) طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه ، انتهى كلامه ، وهو كلام حسن . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					